تُعدُّ الزراعة أحد الموارد المهمَّة لاقتصاد الدوَل، كما تُشكِّل مصدرًا للأمن الغذائي، وتحمي المُجتمعات من الفقر، وتُقاس ثروات الشعوب بثرواتها الزراعيَّة. ومن هنا جاء اهتمام الدوَل بالزراعة، ودعم وتشجيع المزارعين، كما اهتمَّ الناس بصورة عامَّة بالزراعة؛ كونها مصدرًا مهمًّا للغذاء، لذا فقد تمَّ تسخير العلوم والاستفادة منها لتطوير الزراعة، وزيادة المحاصيل الزراعيَّة، وزيادة نشاط تجارة المحاصيل الزراعيَّة، وتنشيط الصناعات التي تعتمد على الزراعة مِثل: صناعة الزيوت، وتجفيف الفواكه والخضراوات، والحبوب، وصناعة الأدوات مِثل السلال، والخشبيَّات المصنوعة من جذوع الأشجار وغيرها، وقد سُخِّرت العلوم لتطوير الزراعة. ففي مجال دراسة الأحياء، كان الاهتمام بدراسة عِلم الحشرات التي تضرُّ بالزراعة. وفي مجال الجيولوجيا، أضيفت التخصُّصات المعنيَّة بدراسة طبقات الأراضي الزراعيَّة، أمَّا في مجال صناعة الآلات والتكنولوجيَّات، فقد كان هناك تطوُّر كبير. فقد ظهر المحراث الآليُّ، والجرَّار، وآلات الحفر، وآلات نثر البذور المتنوِّعة، وآلات جَنْي الثمار بأشكالها، وآلات قطع الحشيش، حتى بلغ التطوُّر في مجال الآلات الزراعيَّة أن استخدم الليزر لقطع الأشجار الضخمة والبعيدة.
وتتنوَّع المزروعات بحسب البقعة الجغرافيَّة، وقد عُرفت شِبه الجزيرة العربيَّة بكثرة زراعة النخيل، فهي مُقوِّم من مُقوِّمات الاقتصاد في بعض الدوَل بالمنطقة. فالنخلة في حدِّ ذاتها تُشكِّل موردًا متنوِّعًا، فلا ينتفع من ثمرها فقط وهو الرُّطب، بل ينتفع بسعفها، وليفها، وجذعها، والعديد من أجزائها، فتقوم على منتجاتها المتنوِّعة العديد من الصناعات مِثل صناعة إنتاج التمور والذي تنوَّعت في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت صناعات للحلويات المصنوعة من التَّمر، وكذلك صناعة بعض العقاقير الطبيَّة المستخلصة من بعض أجزاء النخلة، وصناعة بعض الاحتياجات المنزليَّة كصناعة السلال، والحصر، وسفرة الطعام، كما تدخل بعض أجزاء النخلة في بناء المنازل كاستخدام جذوعها، والجريد، والحقيقة أنَّ الصناعات التي تقوم على منتجات النخلة كثيرة ومتنوِّعة ومُتجدِّدة.
وتحتاج زراعة النخيل ورعايتها لخبرة وفنٍّ، كما تُعدُّ صيانة ورعاية النخلة مهمَّة صعبة لعدَّة أسباب؛ أوَّلها ارتفاع النخلة، فالنخلة عالية باسقة يصل طولها من خمسة عشر إلى أربعين مترًا، كما أنَّ المجموع الخضري من النخلة، والثمار يتركَّز في الجزء العلوي من النخلة؛ أي في أعلى جزء من جذع النخلة، فيصعب الوصول إليه، بالإضافة إلى أنَّ جذع النخلة خشنٌ ولا يتخلَّله أغصان كباقي الأشجار فيصعب تسلُّقها. فتسلُّق النخلة يحتاج لمهارة عالية، وقوَّة بدنيَّة، لا سِيما أنَّ موسم صيانة النخلة وتقليمها وقطف ثمارها يكُونُ في فترة الصَّيف حيث شدَّة الحر. وتتطلب صيانة النخلة خبرة متنوِّعة، حيث يتمُّ عمليَّة التلقيح (التنبيت)، ويتمُّ تقليم سعفها، ويتمُّ تقليم العذوق التي تحمل الرُّطب يدويًّا، كما يتمُّ صيانتها وتنظيفها بالتخلُّص من الليف والزوائد الأخرى، وكُلُّ هذه الأعمال تكُونُ في أعلى النخلة.. وعمومًا فإنَّ في صيانتها مشقَّةً وجهدًا لعلوِّها وارتفاعها. لذا تجد العمال المهرة في مجال رعاية النخلة قليلين، وتكُونُ أجورهم عالية بطبيعة الحال.
وبالرغم من أهمِّية زراعة النخيل، وبالرغم من مشقَّة تقليمها وصيانتها، نجد أنَّ صيانة النخلة ورعايتها ما زالت تتمُّ بالطريقة البدائيَّة التقليديَّة اليدويَّة، حيث يتسلَّق مَن يعمل في صيانة النخلة بطريقة بدائيَّة معتمدًا على حزام من الحِبال لوقايته من السقوط من أعلى النخلة، كما أنَّه ما زالوا يعتمدون على أدوات بدائيَّة في التقليم كالمنجل، والمنشار، وعلى الرغم من دخول التطوُّر في آلات الزراعة ورعاية الأشجار إلَّا أنَّ هذا التطوُّر لَمْ يصل إلى صيانة ورعاية النخلة، فكم نتمنَّى أن يستبدلَ تسلُّق النخلة بالطريقة البدائيَّة بالاعتماد على مصعد متنقل كالذي يستخدم في صيانة مصابيح الشوارع، أو المنشار الكهربائي، أو آلات ربط وتغليف عذوق النخيل، ويرى بعض المهتمِّين بالزراعة اللجوء لتقزيم النخيل كأحد الحلول لمشكلة صعوبة تقليمها لارتفاعها. وقد نجح بعض المختصِّين في الزراعة في تقزيم النخيل، ولكنَّني أرى أنَّ في ارتفاع النخلة مميِّزات لا نتمنَّى خسارتها، ففي ارتفاعها جَمال لا يضاهيه جَمال، ويكُونُ الرُّطب والذي يكُونُ في كثير من الأحيان طريًّا رطبًا بعيدًا عن تلوُّث الهواء، فينزل للآكلين طريًّا نظيفًا، وفي انتشار السعف في الفضاء وقاية للأرض من أشعة الشمس، كما أنَّها مصدٌّ للأتربة، فكم نتمنَّى من شبابنا المُبدعين ابتداع آلات، أو روبوتات، وتقنيَّات حديثة تُسهِّل تقليم النخلة ورعايتها، كي نحافظَ على النخيل باسقات على أرض أوطاننا وتظلُّ هُوِيَّتنا التي نعتزُّ بها… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري