لقد تجرد دور الأقارب من مضمونه، فالقرب من الأقرباء لا يعني زيارتهم وحضور مناسباتهم الاجتماعية فقط، بل يعني التشارك معهم في جميع شؤون الحياة، يا ولدي سيشقى الفرد عندما يعيش بعيدا عن الأقارب..
في ليلة باردة أسندتُ رأسي إلى حضن جدتي الدافئ لتحكي لي عن ماضيها الجميل، كعادتها حين تسامرنا، فتارةً تحكي عن حيِّها وجيرانها وعن مواقف وقصص عاشتها معهم، وتارةً تحكي عن ليلة زفافها وليلة دخولها بيت عائلة جدِّي لأبي، وعن مشاعر الغربة والوحدة والوحشة التي اعترتها في تلك الليلة. أما الليلة فحكايتها كانت عن أقاربها.
قالت جدتي: كنا نعيش قريبين من الأقارب، فَصِلتنا بالأقارب لم تكن مجرد زيارات، بل هي ترابط وتكاتف وتلاحم وتماسك. فنحن جميعا على قلب رجل واحد، نشد من أزر بعضنا البعض في الأفراح وفي الأحزان وفي الشدة، فلا مسافات بيننا، فالغني منا يكفل الفقير، والقوي يساند الضعيف، والمريض منا محل اهتمام ومساندة الأقارب، والمهموم منا يحصل على تعاطفنا جميعا، وكلنا نتلمس أحوال بعضنا البعض ليهبَّ كل منا للمساندة دون أن يطلب منه.
كان للأقارب مطلق الحقِّ للتدخل في تربيتنا، فعندما كنا صغارا كان الأقارب من أجداد وأعمام وأخوال، يشبعوننا حنانًا ومحبةً ودلالًا، وفي الوقت نفسه يحاسبوننا ويعاقبوننا ويعاتبوننا إذا ما أخطأنا، فلهم الصلاحية الكاملة في التدخل في تربيتنا، بل إن المساهمة في تربيتنا تُعد واجبا من واجباتهم وكلهم يتجهون لتعزيز قِيَم وأخلاقيات الدِّين الحنيف، وأعراف العائلة لدينا، حتى باتت أخلاقيات وقِيَم وأعراف العائلة مصانة مهابة، فنحن نحترمها ولا نجرؤ على اختراقها، فكلمة (العيب) في الأخلاقيات لها قوة كلمة الحرام في الدِّين. أما اليوم فالأقارب ليس لديهم أية صلاحيات في المشاركة في تربية الأبناء، بل تُعد مشاركتهم هذه تدخلا غير محمود يعاب عليه، في حين كان الأب في زماننا يهدد ابنه إذا ما استمر في خطئه بأنه سيخبر جده أو عمه أو خاله ليعاقبه ويعنِّفه، هكذا كان الأقارب يتشاركون في تربية الأبناء.
ما زلت أذكر عندما اكتشف عمي مصادفة أخي وهو يدخن، فعنَّفه وضربه ضربا مبرحا، وهدده بأن يخبر أبي بفعله هذا، كان أخي حينها يعتذر من عمِّي وكأنه أخطأ في حقه وحق العائلة جميعا، ويتوسل إليه ألا يخبر أبي بما فعل، فكانت هذه السيجارة هي آخر سيجارة يرشفها في حياته، ولم يعلم أبي بهذه الحادثة حتى توفي، أما أخي فظل ممنونا لعمِّي؛ لأنه أنقذه من التدخين ومضارِّه، ولأنه ستر عليه ولم يعلم أبي، ترى لو فعل عم أو خال بولد ما فعل عمِّي بأخي أتراه يتقبل ذلك؟!
قلت: لو حدث ذلك لتجدين الأب نفسه غاضبا هائجا في وجه أخيه عادًّا ذلك تدخلا في حياته الخاصة وتربية أبنائه.
جدتي: إذا لم يعد الأقارب قريبين من بعضهم البعض، بل هم يتعاملون كالأغراب. في زماننا كان الأقارب مترابطين متماسيكن يتشاركون في اتخاذ القرارات، فقرارات تزويج الأبناء مشتركة، وكذلك قرارات الطلاق، وهم يتشاركون في حل المشاكل الأسرية، وتجد بين الأقارب كبيرا لهم يرجعون له في مشاكلهم ويحسم الخلافات بينهم وبحكمته يلمُّ شملهم. أتراكم كذلك اليوم يا بني؟
قلت: بل كل يتخذ قراره منفردا، فيكاد لا يستشير الفرد إلا أصدقاءه، وقلما يستشير الأقارب والأهل، بل يحيط أموره بحاجز السرية، فلا يُعلم الفرد أقاربه بقراراته المهمة إلا في نهاية المطاف ليكون هذا القرار أمرا واقعا للجميع.
جدتي: كان الأقارب متماسكين مترابطين يشد أزر بعضهم البعض، ويتلمسون حاجة بعضهم البعض فيهبُّون جميعا لمساندة المحتاج دون أن يطلب، فذاك يحتاج للمال، وذاك مريض يحتاج لمساندة، وذاك كسير القلب لفقده عزيزا، أو لخسارته لتجارته أو لأي ظرف اعتراه، فهو يحتاج لمن يتعاطف معه ويجبر كسر قلبه، فكلهم يساند بعضهم البعض، فهم عصبة متماسكة، فهل ترى الأقارب اليوم بهذه القرابة يا بني؟!
سألت جدتي: ماذا يفعل الفرد منكم إذا ما وقع في مشكلة، فإلى مَن يلوذ؟
قلت: إيه يا جدتي تجدين اليوم الفرد منا إذا ما وقع في مشكلة كتمها في صدره، فلا أحد يعلم بهمه، ولا أحد يقف إلى جانبه ويتعاطف معه، حتى باتت الهموم تفترس القلوب وتضعف الأجساد، فيكتئب الفرد ويحزن ولا يجد له معينا، وبات الرجوع للطبيب النفسي لطلب جلسات الفضفضة وحل المشاكل بديلا عن الرجوع للأقارب لاستشارتهم لحل المشاكل والشكوى لهم والفضفضة بين أيديهم ولكسب تعاطفهم.
جدتي: لقد تجرد دور الأقارب من مضمونه، فالقرب من الأقرباء لا يعني زيارتهم وحضور مناسباتهم الاجتماعية فقط، بل يعني التشارك معهم في جميع شؤون الحياة، يا ولدي سيشقى الفرد عندما يعيش بعيدا عن الأقارب، هو أعزل ضعيفا أمام هموم ومشاكل هذه الدنيا، تفترسه عوائد الزمان، فإنما يأكل الذئب الغنم القاصية، يا بني من لا يقترب عن أقاربه سيتجرع مرارة كأس الغربة وهو في وطنه، فكن قريبا من أقاربك… ودُمتم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري