«ومن يتأمل تجربة السلطان صلاح الدين الأيوبي، يجد أنها تجربة رائدة في عملية التنمية، فهو لم يكتفِ بالسيطرة على الأمصار، بل ركز واجتهد في تعميرها وتنميتها معتمدا على تنمية التعليم والصحة، وحرصه على استدامة عملية التنمية..»
عندما تسمع اسم صلاح الدين الأيوبي يتبادر لذهنك شخصية قائد عسكري سجل انتصارات عسكرية وفتح الأمصار وأعاد للأمة الإسلامية قوتها وهيبتها بهذه الانتصارات. ولعل أبرز هذه الانتصارات استعادة فلسطين من أيدي الصليبيين في معركة صِفين.
نعم، لقد فتح صلاح الدين الأمصار، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل اهتم بتنميتها وتطويرها وتعميرها وتوفير أفضل الخدمات للناس، ولهذا القائد الفذ نظرة حكيمة في عملية التنمية حيث اعتمد على الوقف الخيري في تطوير البنية التحتية وتقديم الخدمات للناس، وذلك يأتي من منطلق حرصه على استدامة الخدمات التي تقدم للناس وللمجتمع، لذا لجأ إلى الوقف الخيري الذي يُعد الاستدامة في تفعيل الوقف الخيري شرطا لاستمرار حصول الواقف على الأجر والثواب.
وقد اهتم السلطان صلاح الدين الأيوبي بإحياء الوقف الخيري وتشجيع الناس على الوقف الخيري، والاستفادة من الأوقاف الخيرية المهجورة آنذاك. وقد ركز على مجالين من مجالات الوقف الخيري، وهما الوقف العلمي ووقف المستشفيات، لإيمانه بأن أهم ركيزتين للتنمية هما التعليم والصحة، حتى عُدَّ من أشهر السلاطين الذين أحيوا سنَّة الوقف العلمي، فهو أول من سنَّ الوقف التعليمي وصار قدوة لرعيته في هذا الشأن، فبنى مدرسة بالقاهرة، وأنشأ المدرسة الصلاحية الوقفية العظيمة في القدس. ويقول الدكتور راغب السرجاني في كتابه الرائع (روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية) إن صلاح الدين الأيوبي يعد من أحرص أمراء الأيوبيين على إنشاء المدارس الموقوفة، وقد حرص أمراء الأيوبيين على السير على هذا النهج، فبنى الملك العادل مدرسته المشهورة (المدرسة العادلية في دمشق)، واهتم الأمير نور الدين محمود بإنشاء مستشفيات خيرية في كل المدن التابعة لدولته. ومن غريب الأوقاف وأجملها قصر الفقراء الذي عمَّره في ربوع دمشق نور الدين محمود زنكي.
وكان للسلطان صلاح الدين الأيوبي دور كبير في تطور الحركة العلمية الطبية وازدهارها ببلاد الشام، فبنى بيمارستانات جديدة، واتسع نشاطها في عهده لتصبح معاهد لدراسة الطب وتدريسه إلى جانب البيمارستانات السابقة لعصره، ورفدها بالكادر التعليمي الطبي المتميز، وتزويدها بالعقاقير الطبية اللازمة، وتوزيعها على المرضى مجانا.
وبهذا بدأت مرحلة ازدهار الأوقاف وتنوعها حتى بلغت مبلغا عجيبا من التطور يحار منه العقل البشري، حيث أسس المسلمون مدنا وقرى وقفية بكل مرافقها وما فيها، كما قال علي الصلابي في كتابه “صلاح الدين” (354) “.. والروايات كثيرة تؤكِّد زهد صلاح الدين وتقشُّفه في مأكله وملبسه، بينما يُغدق كرمه على الفقهاء والصوفية، ويوقف القُرى بما تملك من موارد وأرباح، خدمة للزوايا ودور الفقراء، وبنى صلاح الدين الخانات في الأماكن المنقطعة البعيدة عن العمران، وفي الطرق الموصلة بين المدن، وذلك لخدمة أبناء السبيل والمسافرين”، وأما العمل بها فقد اتخذ منحييْن كعادة السلف: منحى استغلالي وآخر استثماري تكون غلته في إعمار الأوقاف الاستغلالية ومرافقها وأثاثها، وتسديد أجور عمالها وطلبة العلم بها…، وكلاهما يعود بالخير والفائدة للمسلمين على جميع المستويات ومجالات الحياة كما أسلفنا:
وقد كان السبب في اهتمام الملك الصالح بالأوقاف: علمه بدورها الكبير في تحقيق التعاون والوحدة والرقي، مع رغبته في نشر العلم والسنة والأخلاق الحسنة والوحدة والتعاون بين المسلمين، وحضهم على التكافل الاجتماعي والمالي، لمحاربة الصليبيين من جهة، مع محاربة الانحرافات، والبدع والخرافات، التي نشرها العبيديون في بلاد المسلمين من جهة أخرى، فأنشأ لذلك القرى والمساجد والمدارس والمكاتب والكتاتيب والبيمارستانات والربط والبيوت، وقدموا لها من الأوقاف ما يصلحها ويُعلِي من أمرها في مختلف المجالات.
ومن يتأمل تجربة السلطان صلاح الدين الأيوبي، يجد أنها تجربة رائدة في عملية التنمية، فهو لم يكتفِ بالسيطرة على الأمصار، بل ركز واجتهد في تعميرها وتنميتها معتمدا على تنمية التعليم والصحة، وحرصه على استدامة عملية التنمية، وتلك التجربة تذكرني بالجهود المبذولة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في العصر الحديث، والبالغ عددها سبعة عشر هدفا، وتتناغم تلك الأهداف في مجموعها لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمعات الإنسانية بشكل مستدام، وتتضمن تلك الأهداف غاية تركز على تشجيع وتعزيز الشركات العامة بين القطاع العام والخاص وشراكات المجتمع المدني الفعالة. وإن لم تنص تلك الغاية على الوقف الخيري بشكل مباشر كشراكة مجتمعية تتسم بالاستدامة.
ولعل السلطان صلاح الدين الأيوبي قد اهتم بتحقيق تلك الأهداف في الأمصار التي تقع تحت ولايته وإن لم يعلنها هدفا بل بدأ بالعمل بها وشجع عليها ليحقق أهداف التنمية المستدامة مستعينا بالأوقاف الخيرية كمصدر لتحقيق هذه الأهداف في وقت قياسي، معتمدا بذلك على مشاركة أصحاب الأموال في المسؤولية الاجتماعية، ومشاركة جميع أفراد المجتمع في عملية التنمية، فمنظوره للوقف الخيري بأنه ركيزة أساسية للتنمية المستدامة، فأسس بذلك نهضة حضارية لتصبح صفحات بيضاء في تاريخ العصر الإسلامية، رحم الله رجالا سبقت أعمالهم أقوالهم… ودمتم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري