كَمْ أثقلت قلبي الهموم، وكَمْ حيَّرت لبِّيَ المشكلات، حتى ضاع من يدي مفتاح السَّعادة وهو راحة البال، وبات قلبي يبحر في موج عاتٍ لا يهدأ ولا يسكن، حتى أضاع مرساه، لا تعذلني يا صاحبي فالشكوى ليست بدَيْدَني، لكنَّها لحظات ضعف تكبِّل عقولنا إن بحثنا عن مَعين يخلصنا، يا صاحبي مَن منَّا يستفرد برغد العيش فلا ألَمَ ولا آهات؟ فكُلٌّ منَّا يبكي على ليلاه، فلا قلب في هذه الدنيا يخلو من صافٍ من الهموم، ولا كتف نجا من حمل أثقال ترهقه.
يا صاحبي دنيانا لا تخلو من الأحداث الموجعة، فقلوبنا تعتصر بَيْنَ آلام الفقد، ووجعات الصراعات في العمل، وبَيْنَ صدمات وكدمات غير متوقعة من الأحبَّة والأصدقاء، حينها تعشى عيوننا عن الحقيقة في وسط الأعاصير المغبرة، حينها نحتاج لحكيم الزمان الذي يقف خارج المشهد ليقدِّمَ لنَا النصح والمشورة، ولِيعينَنا على قراءة المشهد الذي نعيشه بموضوعيَّة وهدوء، فنحكم على الأحداث برويَّة موضوعيَّة. ونُحكم وضع الأمور في نصابها، نبحث عن ذاك الحكيم الذي يعرف أفضل الأشياء بأفضل العلوم كما عُرف في كتب اللغة، نبحث عن صاحب الحكمة التي عرفها النووي بأنَّها «عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، لمصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل».
نبحث عن ذلك الحكيم الذي يقضي سنين عمره ملتزمًا بعمود في المسجد، أو في مغارة نائية، ليقضيَ العمر في طلب العمل وفي التعليم، أو ذلك الحكيم الذي هو كبير العائلة الذي يحتوي الصغير والكبير، ويلمُّ شمْلَ العائلة بحُب، فتجد ملتزمًا بمجلسه لتقصده في أيِّ وقت، فيلوذ له المهموم، ويستمع لفضفضات المحزون، ويقدِّم المشورة للحائر، ويستأمن على أسرار الناس، فإذا ما شكا له الشاكي هانت عليه آلامه وجراحه حتى صغر الهمُّ أمام عَيْنَيْه، واستسهل حلول المشاكل، وربَّما استسخفَّ ما كان يراه مشكلة. هو أذن يسمع وقلب يكتم ورأي سديد يصلح الحال.
اكتُم شكواك يا صاحبي، ولا تسمعها للناس، فإن لَمْ تجد من أذن وقلب حكيم رحيم يسمعك، فاعتصم بالصمت، كن قويًّا يحمل قلبك الهموم، ويقودك عقلك للحقيقة، واحذر كُلَّ الحذر من الشكوى لمَن هو ليس بأهلٍ له، فتقعد ملومًا محسورًا، فها هو الشاعر كريم العراقي يجمل نصحه في أبيات من الحكمة قال فيها:
لا تَشْكُ للناس جُرْحًا أَنْتَ صَاحِبُهُ
لا يُؤْلِمُ الجَرْحُ إلَّا مَن بِهِ ألَمُ
شَكْوَاكَ لِلنَّاسِ يا ابنَ النَّاس منْقصَةٌ
ومَن مِنَ النَّاسِ صَاحِ مَا بِهِ سَقَمُ
فالهمُّ كالسّيْلِ والأحزان زاخِرَةٌ
حُمْرُ الدَّلائلِ مَهْمَا أهْلُها كَتمُوا
فَإِنْ شَكَوْتَ لِمَنْ طَابَ الزَّمَانُ لَهُ
عَيْنَاكَ تَغْلِي وَمَنْ تَشْكُو لَهُ صَنَمُ
وَإِذَا شَكَوْتَ لِمَنْ شَكْوَاكَ تُسْعِدُهُ
أَضَفْتَ جُرْحًا لِجُرْحِكَ اِسْمُهُ النَّدَمُ
هَلِ الْمُوَاسَاةُ يَوْمًا حرَّرَتْ وَطَنا
أم التّعازي بَدِيلٌ إنْ هَوَى العَلَمُ
مَنْ يُنْدبُ الْحَظَّ يُطْفِئُ عَيْنَ هِمّتِهِ
لَا عِينَ لِلَحْظِ إنْ لَمْ تُبصرِ الْهِمَمُ
يا صاحبي لا تشكو همَّك فتندم، بل اطلب النصح من أهله تغنم، واجعل السَّعادة بغيتك وراحة البال مرادك. يا صاحبي، في زماننا كثر المرشدون والمستشارون، فهناك مَن يرشدك لأن تكُونَ غنيًّا، وهذا يرشدك لِتكُونَ مشهورًا، وذاك يرشدك لِتكُونَ بطلًا رياضيًّا، قلَّما تجد مَن يرشدك لِتكُونَ سعيدًا.
يا صاحبي إن لَمْ تكن شكواك لمَن ليس هو أهلٌ للشكوى، فستجد نفسك تتنقل بَيْنَ الآذان لتبحث عن ضالتك، فتتحوَّل لامرئ يكثر الشكوى حتى تكاد تُدمنه، فينفر مِنك الناس ويملُّوا مجالستك، وتشعر بالعجز والضعف أمامهم، وينتابك الحزن والاكتئاب، فاكتم شكواك تغنم وافخر، واسعد بالجوانب الإيجابيَّة في حياتك واعتزَّ بها أمام الناس فتزداد قوَّة وصلابة، واتِّبع قول الرشيد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عَنْه ـ حين قال:
ولا ترين الناس إلَّا تجملا
نبا بك دهر أو جفاك خليل
يا صاحبي نحن في زمان قلَّ فيه الحكماء، فلا تطلب المشورة ممَّن هو ليس أهلًا لها، وتجلَّد بالإيمان ولْتكُن شكواك لله في سجدتك، وإن احترت فاطلب الخيرة من خالقك في صلاة الاستخارة، واحكم أمورك بنفسك تغنم… ودمت يا صاحبي سالمًا.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري