لقد شجَّع الإسلام المُسلِمين على أن يُوقِفوا أموالهم على منفعة النَّاس، فيوقفوا شيئًا من أموالهم كأن يُوقِفوا مبنًى أو مزرعةً أو بئر ماء أو أيَّ نَوْعٍ من أُصول أموالهم، فيخرج هذا المال من ذمَّتِهم إلى ذمَّة الله، لِيكُونَ صدقةً جارية تظلُّ تدرُّ المنفعة والخير على النَّاس بشكلٍ مستمرٍّ، أو بمعنى آخر بشكلٍ مستدام. وقد تسابَقَ المُسلِمون على الوقف فأوقفوا المزارع، والإسطبلات، والمستشفيات وغيرها من الأموال بغرض خدمة المُجتمع، وقد تنوَّعت المجالات في المُجتمع الَّذي يخدمه الوقف الخيري. فبعض الوقف يكُونُ لسدِّ احتياجات النَّاس الأساسيَّة من مسكنٍ وأكلٍ وشربٍ وملبس، والبعض لدعمِ التعليم، والبعض لدعمِ علاج المرضَى، والبعض لإيواءِ ورعايةِ الفئات الضَّعيفة الَّذين ليس لدَيْهم أُسر قادرة على رعايتهم كالمعوّقين، والمُسنِّين، والأيتام، وغيرها من الفئات العاجزة عن الاعتماد على نَفْسِها. وتتنوَّع المشاريع الوقفيَّة: فمِنْها ما يُستثمر بشكلٍ مباشر لِتعُودَ الأرباح لصالحِ الموقوف عَلَيْهم، وبعض الأوقاف ما يُقدِّم الخدمات بشكلٍ مباشر للنَّاس مِثل: المستشفيات والمدارس، ودُور الرعاية الوقفيَّة. وفي جميع الأحوال فإنَّ الأوقاف تُسهم في تنمية الاقتصاد بصوَرٍ مختلفة، ونتناول اليوم موضوع طرح الوقف الخيري لفرص العمل.
ونقصد بفرص العمل هي الوظائف ومصادر الدَّخل الَّتي تطرحها المؤسَّسات ليتمَّ توظيف النَّاس بها، مقابل راتب شهري ثابت، أو مقابل مكافآت في أوقاتٍ مختلفة، وهي بنَوْعَيْها تُشكِّل مصدر دخل لبعضِ أفراد المُجتمع ويطرح الوقف الخيري نَوْعَيْنِ من فرص العمل وهما:
العمل بنظام المكافآت: كما هو معروف أنَّه على الواقف أن يُعيِّنَ متولِّيًا للوقفِ، أو بمعنى آخر مشرِفًا على إدارة الوقف الخيري؛ لِيديرَ هذا الوقف فيتحقَّقَ من صيانته وسلامته، ويتحقَّقَ من استفادة النَّاس مِنْه (الموقوف عَلَيْهم)، إمَّا عن طريق التَّأجير أو عن طريق الاستفادة بشكلٍ مباشر كأن تزرعَ المزرعة ويأكلَ النَّاس من ثمرِها، أو يسكنَ أحَد المحتاجين الدَّار الموقوفة وغيرها من صوَر الاستفادة. ومهام متولِّي الوقف الخيري كثيرة يُمكِن إيجازها في عبارة واحدة وهي «الحفاظ على الوقف الخيري للاستفادة مِنْه بأقصى صورة ممكنة»، ومقابل هذا الجهد يستحقُّ متولِّي الوقف الخيري الحصول على مكافأة، قد تكُونُ شهريَّة، أو موسميَّة كأن يحصلَ على نسبةٍ من حصاد الثِّمار كُلَّ عام أو غيرها، وتُحدَّد قِيمة مكافأة المتولِّي بأجرِ المثل. وتُعَدُّ إدارة الوقف الخيري نَوْعًا من فرص الحصول على العمل، ومجالًا لكسبِ الرِّزق.
العمل بنظام الأُجرة: ويجوز لمتولِّي الوقف الخيري أن يستعينَ بموظَّفين أو عمَّال للمساعدةِ في تشغيل وإدارة الوقف، فإذا كان الموقوف مزرعةً مثلًا جاز لمُتولِّي الوقف الخيري أن يستعينَ بزارعِين لحرثِ الأرض، وزراعتها، وجني الثِّمار، ونقلِها للأسواق للبيع، وكذلك إذا كان الوقف يقدِّم منفعةً عامَّةً مباشرة للنَّاس: كَدارِ الأيتام أو المستشفيات الوقفيَّة، أو المدارس الوقفيَّة، فيجوز لمُتولِّي الوقف الخيري أو مَن يُديرُ هذا الوقف أن يوظِّفَ المختصِّين لتقديمِ الخدمات للنَّاس من خلال هذا الوقف كأن يُعيِّنَ أطبَّاء، أو مُعلِّمين، أو مُشرِفين على تربية الأيتام وغيرها من الوظائف، ويدفعَ للموظَّف راتبًا شهريًّا مقابل هذا الجهد الَّذي يبذله لتشغيلِ الوقف الخيري وهو ما يعادل أجْرَ المِثل، أي أنَّ الوقف الخيري يطرح فرصًا للعملِ والحصول على وظيفة للنَّاس، الأمْرُ الَّذي يدفع القائمين على الأوقاف الخيريَّة (متولِّي الوقف) على بذل المزيد من الجهد لاستثمار الأوقاف لِيدرَّ أرباحًا يُمكِن يُستعان بها على دفع الرواتب الشهريَّة للموظَّفين.
كما تُطرح فرص للعملِ وكسبِ الرِّزق من خلال استثمار الوقف الخيري، فالدخول في عمليَّات الاستثمار للوقفِ يفتح فرصًا للعملِ للعديدِ من الفئات، فإذا ما تمَّ التوسُّع لبناءِ مبنًى للوقفِ الخيري يستفيد العديد من الأطراف من هذا المشروع الاستثماري كمقاولي البناء الَّذين يعملون بأجر، ومحالّ بيع مواد البناء، وكذلك العمَّال، وبذلك ينشط السُّوق الاستثماري ويفتح فرصًا للعملِ وكسبِ الرِّزق.
من هُنَا يُمكِننا القول إنَّ الاجتهاد في تنشيط الوقف الخيري، سواء المباشر والَّذي يوفِّر خدمات للنَّاس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر والَّذي يستثمر ويستفاد من ريع استثماره لصالحِ الموقوف عَلَيْهم، سيطرح فرصًا للعملِ وزيادةِ دخلِ الفرد، وكسبِ الرِّزق بصورةٍ أو بأخرى، ممَّا يُسهم في تقليل البطالة، ويُمكِننا القول إنَّه كُلَّما انتعشَ الوقف واستثماره، زادت الفرص لطرحِ الوظائف وفتحِ أبواب الرِّزق للنَّاس… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري