لماذا لا يتم الاستفادة من إنتاج المبدعين وهم أحياء؟ ولماذا لا يكرمون ويقدرون وهم على قيد الحياة فيؤجل هذا التكريم إلى ما بعد موتهم؟ إن جواب هذا السؤال يكمن في طريقة التعاملات الإنسانية بين أفراد المجتمع.
كثيرا ما نسمع عن روائع شعرية مدثوره لأحد الشعراء المغمورين، اكتشفها ورثته ضمن تركته، وبرزت وانتشرت بين الناس بعد موته، وكثيرا ما يترك المبدعون تصورات لاختراعات واكتشافات علمية تكون موثقة ومكتوبة ولكنها غير معروفة، فيأتي اللاحقون لينسبوها لأنفسهم، وهناك الكثير ممن أبدع في إنتاج المعرفة والفنون والعلوم ولكن لم يعرف عنها أحد، فضاعت وأصبحت شيئا لم يكن. فالإشكالية لا تكمن في إنتاج الإبداعات إنما في استثمارها والاستفادة منها وإبرازها ونشرها، وتوثيق اسم صاحبها ليصبح جزءا من تاريخ الأمة.
والواقع أنه لا يخلو مجتمع من المبدعين، سواء كانوا فنانين، أو أدباء، أو شعراء، أو مفكرين، أو علماء أو مخترعين، أو مكتشفين، فهم يضيفون إلى حضارات أمتهم الإنتاج الفكري والعلمي والمعرفي. فتنمو تلك الحضارات وتزدهر في كل مرحلة زمنية بعطاءات هؤلاء المبدعين.
ولكن هناك إشكالية وهي أن بعض الأمم تهضم حق مبدعيها فتكون إبداعاتهم من مكنونات الأدراج، وتختفي أسماء مبدعيهم في غيابة جب النسيان، تلك إشكالية حضارية لطالما طرحت على مر الأزمان. وهي عدم قدرة الأمة على استقبال إنتاج المبدعين من أبنائها واستثمار هذا الإنتاج والاستفادة منه والحفاظ عليه.
إن بناء الحضارات لا يكون إلا باستثمار إضافات المبدعين في كل عصر وفي كل حقبة زمنية، وأرى أن هناك عدة أركان تساعد على استثمار إبداعات المبدعين لتضاف لحضارة أممهم وهي: تشجيع الإنتاج المعرفي الفكري أو الأدبي أو العلمي، والركن الثاني أن يكون للأمة القدرة على استقبال هذا الإنتاج والاستفادة منه وتوظيفه، والركن الثالث هو الاعتزاز بتلك الشخصيات المبدعة بتوثيق أسمائهم وإنتاجهم ليكونوا جزءا من تاريخ حضارة أمتهم، ولتتناقلها الأجيال.
ومعرض حديثنا اليوم عن الركن الأخير وهو كيفية الاعتزاز وتوثيق إبداعات المبدعين وحفظ أسمائهم، ليتناقل من جيل إلى جيل. ويمكننا القول إن أهم السبيل للحفاظ على إنتاج المبدعين هو تدريس الأجيال تركة هؤلاء العلمية والفكرية، أو تسمية إحدى المنشآت بأسمائهم كالشوارع، أو المدارس أو غيره ليظل ذكرى إنجازاته باقية في الأذهان وتدفع أبناء الأجيال المتعاقبة للاستفادة من إرثهم.
وهناك إشكالية أخرى وهي أنه من الملاحظ أن استثمار إبداعات المبدعين، سواء علماء أو شعراء أو مفكرون غالبا ما يكون بعد موتهم، فيحتفى بإنجازهم، ويروج له، ويستفاد منه. وهنا يطرح سؤال نفسه: لماذا لا يتم الاستفادة من إنتاج المبدعين وهم أحياء؟ ولماذا لا يكرمون ويقدرون وهم على قيد الحياة فيؤجل هذا التكريم إلى ما بعد موتهم؟ إن جواب هذا السؤال يكمن في طريقة التعاملات الإنسانية بين أفراد المجتمع. فلعلَّ نفوس الناس تعج بالمشاعر السلبية بين بعضها البعض كالحسد والغيرة والمنافسة غير الشريفة، ولعلَّ حسابات معقدة متشابكة في العلاقات الإنسانية بين مجموعات المجتمع تدفعهم إلى رفض الاعتراف بإبداعات هؤلاء الناس والاستفادة منها بل ربما مجرد النظر إليها، كالعنصرية، والطائفية، والتمييز، وقد لخص هذا النوع من التعامل بين الناس الشاعر أبو القاسم الشابي حين قال:
الناس لا ينصفون الحي بينهم
حتى إذا ما تورى عنهم ندموا
الويل للناس من أهوائهم أبدا
يمشي الزمان وريح الشر تحتدم.
وهنا سؤال آخر يفرض نفسه: لماذا تتكبد الأمة خسائر كبيرة بعدم استثمارها لإبداعات رجالاتها ونسائها، فتدفع الأمة ثمن مشاعر سلبية في نفوس البعض تجاه المبدعين كالغيرة والحسد وحب التسلط؟ ولعمري إنها لجريمة شنعاء في حق الأمة.
وقد يكون السبب هو أن المبدع نفسه لا يشغل نفسه بإقناع الآخرين بإنتاجه الفني أو المعرفي، فهو يتوقع من الآخرين معرفة قيمة ما أنتج، فالمبدع إن لم يتمتع بفن عرض إبداعاته والدفاع عنها والتسويق لها وإقناع الآخرين بها، تجده يتحول إلى شخص محبط منكسر متذمر وربما ناقم على المجتمع، فكيف نتجاوز هذه الإشكالية؟
أرى أن أمامنا طريقتين لتجاوز هذه الإشكالية وهما: الأولى أن نشجع وندرب المبدعين على الترويج لإبداعاتهم وتنمية قدرتهم على الإقناع بإنتاجهم وتدريبهم على مهارة عرضه للناس، أما الثانية فهي إيجاد مؤسسات متخصصة في مجال الترويج والتسويق لهذه الإبداعات، وتكون مهمتهم الترويج والإعلان عن تلك الإبداعات والعمل على الاستفادة منها بحيث تشكل أحد مصادر الاستثمار التي تسهم في تنمية الاقتصاد، كما تعمل هذه المؤسسات على توصيل هؤلاء المبدعين إلى العالمية. وعلى كُلٍّ، فبناء حضارة الأمة مرهون بقدرتها على توثيق إبداعات أبنائها… ودُمْتم أبناء قومي سالمين.