مَن منَّا يدَّعي أنه لا يرتكب الذنوب، فكلٌّ منَّا يهزم أمام رغباته وأهوائه، ولكن تختلف أنواع الذنوب ودرجاتها، فالبعض يرتكب كبائر الذنوب فيستلم لأهوائه وغرائزه، ومن هذه الكبائر شرب الخمر والمسكرات، أو الزنا، أو التعاطي بالربا، والبعض يقع في ذنوب أخرى، كالكذب، وسلب الأموال بغير الحق، والبعض يستسلم لأهوائه فيقع في ذنب الغيبة والنميمة، وأيا كان هذا الذنب كبر أو صغر فإن الدافع الحقيقي وراء تكرار ارتكاب الذنب هو ضعف الإرادة والانسياق وراء رغبات النفس والاستسلام لها وطاعتها. فإذا ما ابتلي الإنسان ببلاء ضعف الإرادة تعذَّرت عليه التوبة، بل تجده كلَّما تاب وقرَّر الإقلاع عن ارتكاب هذا الذنب تجده يستسلم ثانية لطلبات وأوامر أهوائه وغرائزه فينجرف ثانية لارتكاب الذنب نفسه.
نعم كلُّنا نخطئ ونرتكب الذنوب، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون) ويقصد بالتوبة هو ترك فعل الذنب والمعصية، والندم على فعل هذا الذنب، وأن يعاهد نفسه بعدم معاودة ارتكاب الذنب ثانية. فكثيرا ما يندم الناس على فعل بعض الذنوب، ويتركون فعله، خصوصًا في شهر رمضان الكريم حيث تزداد روحانيات الإنسان نتيجة الاجتهاد في العبادة في هذا الشهر الفضيل، ولكن يبقى التحدِّي والصعوبة في التزام المرء بعدم العودة لفعل الذنب، فنحن مطالبون بترويض نفوسنا وضبطها لنتمكن من عدم معاودة فعل الذنب، فالذي يُلقي بنا في الهاوية ويعيق قدرتنا على الالتزام بعدم العودة لفعل المعصية، هو ضعف إرادتنا وعدم قدرتنا على التحكم في رغباتنا، وقد أوجز الشاعر أحمد شوقي في قصيدته نهج البردة هذا القول في بيتين من الشعر كانا لي موعظة طوال حياتي حيث قال:
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخم
تطغى إذا مكنت من لذة وهوى
طغي الجياد إذا عضت على الشكم
تلك العقبة الكبرى التي تواجه من يطمح للتوبة والإقلاع عن الذنب، تلك العقبة التي تجعلنا نخرج من دائرة خير الخطَّائين، فالبعض لا يتقن فنَّ التوبة؛ لأنَّه لا يتقن فنَّ ضبط نفسه والتحكم في رغباته بحيث يهزمها هزيمة لا رجعة فيها، لذا عليه أن يتسلح بأسلحة دائمة تمكنه من هزيمة رغباته إذا ما تحركت في أي وقت لتهاجمه وتجرفه للهاوية، وفنون ضبط رغبات النفس والتحكم فيها كثيرة نذكر منها:
تغير الصحبة والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، واختيار الصحبة لا تتقبل ارتكاب هذا الذنب وترفضه وتردعه عن فعل هذا الذنب، فإذا ما اختار هؤلاء الأصحاب والرفقاء المناسبين فعليه مصارحتهم وطلب العون منهم ليردعوه ويعينوه على غلبة نفسه.
عليه أن يتعامل مع شهواته وغرائزه كما يتعامل مع طفل متمرد، فإذا ما هزمته رغباته وعاود ارتكاب الخطأ عليه أن يوقع على نفسه عقوبات ليؤدبها فلا يعاود ارتكاب الخطأ، كأن يلزم نفسه بصدقات معيَّنة أو صيام نوافل في أيام محددة كصيام الاثنين أو الخميس أو الليالي البيض معينة أو قراءة قرآن. فليختر عقوبة يوقعها على نفسه يشق عليه الالتزام بها كي يستصعب ارتكاب الذنب، فقد شرح الشاعر العباسي البوصيري في قصيدته نهج البردة، كيفية ترويض النفس البشرية وشبهها كالطفل المتمرد الذي يحتاج لترويض حيث قال:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
ولتستطيع هزيمة نفسك وغلبها، درِّب عقلك على مخالفة رغباتك وضبطها، فما سُمِّي العقل بهذا الاسم إلا لأنَّه يعقل ويربط تصرفات الإنسان الناتجة عن استجابته لرغبات نفسه وأهوائها، فدرب نفسك على مخالفة رغباتك حتى لو كانت تلك الرغبات مشروعة، وذلك بهدف زيادة قدرتك على ردع تصرفاتك فإذا رغبت في تناول طعام ما فلا تتجاوب مع نفسك حتى لوكان هذا الطعام مشروعًا، فالهدف هو أن تعوِّد عقلك على هزيمة نفسك وردعها، وهنا نذكر قصة رواها جابر ابن عبدالله رضي الله عنه أنَّه قال: رأى عمر ابن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر، فقلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر رضي الله عنه: (أوكلما اشتهيت اشتريت يا جابر…) فشراء وتناول اللحم ليس بحرام، ولكن الحكمة من نصيحة عمر بن الخطاب لجابر رضي الله عنهما، بألا يطاوع شهواته ويتجاوب معها، فيجب أن يكون معيار القرارات مهما كانت صغيرة بالعقل وليس بالشهوات والاستجابة للغرائز. فاعلموا أن التوبة تتطلب أن يكون لدى الإنسان فنون التعامل مع النفس وهزيمتها وضبطها فأتقنوا هذا الفن تتقنوا فن التوبة لتصلوا لمرتبة خير الخطائين… ودمتم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري