دائمًا نستعذب استرجاع الذكريات، هكذا نحن البشر!!! فالأحداث التي عشناها في الماضي تتحول لذكريات جميلة، ولاسترجاع ذكريات الأحداث التي عشناها في طفولتنا وقع خاص في النفس، إننا نستعذبها ونستظرفها ونشتاقها، ويمتدُّ الشوق لكلِّ الشخصيات التي عاصرناها في طفولتنا حتى بائع الخبز والبائع الجوال الذي يبيع الآيسكريم. أتذكر يا أبي؟ كنتَ تصرُّ على مصاحبتي معك إلى أماكن كثيرة، أتذكَّر أبا إدريس ذلك الرجل السوداني الأصل صاحب ورشة (كراج) تصليح السيارات الذي كنتَ تزوره بشكلٍ مستمر لتصليح سيارتك القديمة، فتجلس على كرسي تراقب العمَّال وهم يحاولون إحياء رميم هذه السيارة القديمة، وكم غضبت أُمِّي منك لأنَّني أعود لها وقد ابتلَّ ثوبي عرقًا واتَّسخ بالمواد التي تستخدم في الورشة (الكراج) فيشقُّ عليها تنظيفها. أتذكَّر زيارتنا الأسبوعية لبيتِ عمِّك، كم كنتُ أتذمَّر منها وأجلس محتميًا بظهرك وأظلُّ أختلس النظر إلى الساعة وأهمسُ لتنتهي هذه الزيارة بسرعة، فقد كان عمُّك عصبيَّ المزاج ذا صوت أجشَّ عالٍ يخيفني!!! ويحي!! كم كنتُ أهابه وأبذل جهدي لإقناعك بألَّا أرافقك لزيارته ثانية. وما زلتُ أذكر رحلة التسوق الأسبوعية إلى المركزي حيث تشتري احتياجات أُسرتنا من لحوم وخضار وفواكه، كنتُ أراقبك كيف تختار تلك المشتريات، وعرفتُ أصحاب المحالِّ التي تشتري منها، وكم كانوا يداعبونني وأفرح بعطاياهم البسيطة. أتذكَّر عندما كنتَ تستدعيني للجلوس مع أصدقائك في مجلسنا فأجلس في زاوية أراقب ما يدور بينكم من أحاديث وتعليقات. وكم كنتُ أسأم الوقوف في ذلك الطابور الطويل الذي نقف فيه شهريًّا لاستلام راتبك نقدًا من المصرف، وطابور دفع فاتورة هاتف المنزل، كنت أقف متذمرًا فأنا الطفل الوحيد الذي يقف في هذا الطابور.
دعني أعترف لك يا أبي أنَّني كنتُ في كثير من الأحيان أتذمَّر من مرافقتك لي الإجبارية، فغالبية تلك الزيارات لا تستهويني، فكم حاولت التهرب بالتمارض، والتعذُّر بالواجبات المدرسية، أو حاجتي للمزيد من ساعات النوم، لكنَّك كنتَ تصرُّ على أنْ تأخذَني معك مهما قدَّمت من أعذار، دعني أعترف لك أنَّني كنتُ أشكو إلى أصدقائي ومُعلِّمي. أذكرُ أنَّ مُعلِّم اللغة العربية طلب منَّا أنْ نكتب موضوع تعبير حول مشكلة أُسرية نعاني منها، فكتبتُ حينها عن تذمُّري لإصرارك لأنْ أرافقَك إلى كُلِّ مكان تذهب إليه. وعندما كبرتُ قرَّرتُ بَيْني وبَيْنَ نفسي أنْ أتمرَّدَ، فلا أرافقك في جميع هذه المشاوير، لتفاجئني وتطلب منِّي أنْ أقوم أنا بمفردي بهذه المشاوير، فأذهب لدفع فاتورة الهاتف فأنا أعرف المكان جيِّدًا وأعرف الإجراءات، وأذهب إلى السُّوق لشراء احتياجات أُسرتنا فبائع اللحم والخضراوات يعرفونني جيِّدًا وهم سيختارون لي ما يناسبنا، حينها ازداد شعوري بالتذمُّر وأحسَسْتُ أنَّني عَلِقْتُ في شِراكك ولا خلاص من هذه الشراك.
في هذه اللحظة فقط، لحظة أنْ حملت مولودي الصغير بَيْنَ ذراعَيْ وأسميته باسمك ورجَوْته أنْ يكبر بسرعة ليرافقني إلى السُّوق، في هذه اللحظة أدركتُ أنَّ ما فعلتَه معي هو عَيْنُ الصواب، في هذه اللحظة أدركتُ أنَّني تعلَّمتُ من ملازمتك أكثر ممَّا تعلَّمتُه من أساتذتي. فمِن ملازمتك عرفتُ الرجال فصادقتهم، تعلَّمتُ من ملازمتك آداب المجالس وآداب الحديث فعرفتُ فنون الحوار، ومن ملازمتك اكتسبت خبرات في اختيار المشتريات، وكيف أتعامل مع عمَّال الصيانة وأصبحَتْ لديَّ خبرة حول قِطَع غيار السيارات، والأهم من تلك الخبرات والمعارف والعلاقات التي اكتسبتها، أنَّني كنتُ أقتربُ منك أكثر وأكثر، وصنعتُ معك ذكريات جميلة استرجعتُها جميعها في هذه اللحظة فزادَ شوقي إليك وزادَ حنيني وعرفتُ معنى الأُبوَّة، وعرفتُ كيف يُربَّى الرجال، وأدركتُ أنَّ صناعة الرجال فنٌّ.
في هذه اللحظة اشتقتُ للخروج معك لأسترجعَ الذكريات وكُلِّي أمل أنْ يكبر صغيري وأنت بصحَّة وعافية ليرافقنا في الخروج لذات الأماكن التي صنعتَ فيها الذكريات، سأخرج معك اليوم للتسوُّق رغم خطواتك البطيئة، وستذهب معي للورشة (الكراج) فتجلس في السيارة وتحادث العمَّال من النافذة، ففي تلك الرفقة استعادةٌ لذكريات الطفولة التي تحوَّلت لذكريات جميلة، ونزور معًا إخوتي، سأسيرُ على نهجك وأرافق صغيري عندما يكبر، لن أدعَه يستسلم لرفقة هاتفه النقَّال، سأرغمه وإنْ قاوم رغبتي لأصنعَ له ذكريات ستكون جميلة في يوم ما، وأخيرًا كلمة لكُلِّ أبٍ اِصْنَع الذكريات الجميلة لابنك… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري