You are currently viewing التحول فـي دور المؤسسات الوقفية من مؤسسات دينية إلى اجتماعية

التحول فـي دور المؤسسات الوقفية من مؤسسات دينية إلى اجتماعية

إنَّ المتتبع لدَوْر الوقف الخيري على مرِّ عصور العهد الإسلامي يجد أنَّ الوقف الخيري كان يؤدِّي دَوْرًا أساسيًّا في تمويل القِطاعات المختلفة، ولم يقتصر على تمويل القِطاع الديني والدعوي فقط، فقد دعم القِطاع التعليمي، والقِطاع الصحِّي، وقِطاع تنمية الأُسرة، وقِطاع دعم المِهن والحِرف، وقِطاعات رعاية الفئات الضعيفة في المُجتمع كالمسنِّين والمعوقين والأطفال، وقِطاع حماية الحيوانات بأنواعها، سواء الحيوانات التي تُسهم في الاقتصاد كالمواشي، أو التي يعتمد عليها في مساعدة الإنسان وخدمته كالخيول والحمير والكلاب، أو غيرها من الحيوانات، وجميع القِطاعات التي تخدم الناس أو بلغة أخرى القِطاعات التي تخدم التنمية البَشَريَّة.
لقد شاع مفهوم خاطئ، لا سِيَّما في العصور المتأخرة، في دوَل الخليج العربي بأنَّ دَوْر الوقف الخيري يتركز على تمويل القِطاع الديني فقط كدعم المساجد وتشغيلها، وتحمُّل كلفة رواتب الموظفين وكلفة تنظيف مرافق المساجد، وتوفير المواد الاستهلاكيَّة للمُصلِّين كتوفير مياه الشرب، والمناديل، وغيرها، ودفع رسوم الكهرباء والماء، وتوفير المصاحف، وقد يمتدُّ الدعم لإنشاء المكتبات بالمساجد ومتطلبات حلقات تعليم القرآن الكريم، علاوة على تمويل المقابر بتخصيص الأراضي الموقوفة، وتحمُّل كلفة دفن الموتى. وتمويل كلفة العبادات ككلفة الحج والعمرة، وإفطار الصائمين. ولَمْ يمتد مفهوم الوقف الخيري في هذا العصر بشكل واضح لدعم القِطاعات التنمويَّة المختلفة التي ذكرناها في بداية المقال، كدعم قِطاع التعليم والصحَّة، القِطاع الرعوي وغيرها، وأعلل ذلك أنَّ هذا العهد وهو عهد ازدهار النفط، أدَّى إلى انتشار مفهوم الرفاهية الاجتماعيَّة معتمدًا على تمويل جميع الاحتياجات في القِطاعات التنمويَّة والاجتماعيَّة المختلفة من ريع النفط.
وفي تقديري أنَّ عهد الرفاهية المعتمد على موارد النفط بدأ من مرحلة الانحسار والتراجع لأسباب مختلفة أبرزها تذبذب أسعار النفط، وبالتالي انخفاض إيرادات بعض الدوَل، لِتكونَ الأولويَّة في تمويل قِطاعات أخرى غير القِطاع الاجتماعي مِثل قِطاع الدفاع والأمن ودعم البنية التحتيَّة، ثمَّ يتوقع تراجع أولويَّة دعم الخدمات الاجتماعيَّة من قِبل الموارد النفطيَّة، فتتجه دفَّة التمويل إلى مجال الوقف الخيري من الاقتصار على دعم القِطاع الديني إلى دعم القِطاع الاجتماعي وتمويل احتياجات الإنسان وتوفير أولويَّات المُجتمع.
وبالتالي لا بُدَّ من إعادة النظر في المفهوم السَّائد حَوْلَ المؤسَّسات الوقفيَّة؛ كونها مؤسَّسات دينيَّة وليست اجتماعيَّة، إذ إنَّه من الطبيعي أن يتراجعَ تمويل الخدمات الاجتماعيَّة والمشاريع التنمويَّة من قبل إيرادات النفط لصالح تمويل المشاريع القِطاع الأهلي وتحديدًا الوقف الخيري، ونقصد بالمشاريع التنمويَّة المتعلقة بخدمة المُجتمع، تمويل إنشاء وتشغيل دَوْر الإيواء، ومراكز الإعاقة، والمُسنِّين، وخدمات التعليم، والخدمات الصحيَّة، ودعم أدوات المِهن والحِرف. ومن هنا لا بُدَّ من توفير مُقوِّمات الاستدامة في الأوقاف الخيريَّة ليستمرَّ في تمويل المشاريع التنمويَّة لتموِّل ذاتها بذاتها وذلك عن طريق استثمار أصول الوقف، سواء عن طريق الإيجار، أو الاتجار بالمحصول الزراعي، أو حتى عن طريق استثمار النقد الناتج عن إيرادات أصول الوقف، أو غيرها من طُرق الاستثمار المشروع والآمن.
ومن هنا فإنَّ على المؤسَّسات الوقفيَّة أن يمتدَّ دَوْرها من مجرَّد إدارة أصول الأوقاف، إلى التركيز على البحوث الاجتماعيَّة بأنواعها، فلا بُدَّ من إجراء الدراسات الاجتماعيَّة، المسحيَّة منها والميداني بهدف تحديد أولويَّات احتياجات المُجتمع، كما يتطلب التنسيق المباشر مع الجهات الرسميَّة ذات العلاقة. وهنا تبرز أهمِّية تدريب باحثين اجتماعيين لدى المؤسَّسات الوقفيَّة بحيث يكونون قادرين على دراسة الحالات اجتماعيًّا والتحقُّق من مدى احتياجات الأُسر للدعم ضمانًا للعدالة والشَّفافية في توزيع الدعم. كما يتطلب توفير مُقوِّمات مصداقيَّة عمل المؤسَّسات في دَوْرها الاجتماعي عن طريق الالتزام بمبادئ الحُكم الداخلي، وأنظمة المساءلة الداخليَّة.
وتمهيدًا للانتقال من مفهوم الدعم الديني للوقف الخيري إلى مفهوم الدعم الاجتماعي والخدماتي، فلا بُدَّ من وضع منظومة محكمة لتشجيع الواقفين على وقف أموالهم على الخدمات الاجتماعيَّة عن طريق الحملات التثقيفيَّة والتوعويَّة، وعن طريق، الإشارة إلى الخدمات الاجتماعيَّة في نماذج عقود الوقف الخيري، وعن طريق دراسة الأحكام الفقهيَّة في مدى جواز تغيُّر الموقوف عليه في الأوقاف القديمة في حالة تغيُّر حاجة المُجتمع، كما تتطلب هذه المرحلة تشجيع الوقف المشترك حيث يتشارك مجموعة من الواقفين في إنشاء أوقاف تقدِّم خدمات اجتماعيَّة. وعمومًا فإنَّنا على أبواب مرحلة انتعاش الأوقاف وهي مرحلة تحتاج لوضع أُسُس وركائز مهنيَّة لتنظيم الوقف، واستثماره بالصورة المُثلى، ووضع التدابير لحمايته من الضياع… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.

نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري