يُعَدُّ الإحساس بالمسؤوليَّة تجاه خدمة النَّاس وخدمة المُجتمع صورة من صوَر التكافل الاجتماعي. فالجميع يتكاتف ويتكافل لخدمة بعضهم البعض، وهذا النَّوْع من التكافل يُعَدُّ ركيزةً أساسيَّة لعمليَّة التنمية وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، فالنَّاس تتعاون لخدمة الفئات الضعيفة كمساعدة الفقراء، ورعاية المُسنِّين، والأيتام، والمعوقين، والمصابِين بالأمراض المزمنة، وكذلك لدعم وتنمية الأطفال والشَّباب، حيث يستفاد من فائض الأموال ومن المدَّخرات لدى مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ، ولدى الأفراد المقتدرين، كما يستفاد من جهود وخبرات أفراد المُجتمع ومؤسَّساتها لدعم هذه الفئات الضعيفة وتحقيق احتياجات المُجتمع. وهو ما يسمَّى بالتعبير الحديث بالمسؤوليَّة الاجتماعيَّة.
ويُقصد بالمسؤوليَّة الاجتماعيَّة: هي المسؤوليَّة المُلقاة على عاتق المقتدرين من مؤسَّسات قِطاع خاصٍّ أو من أفراد لتقديم خدمات للمُجتمع لتنفيذ مشاريع تنمويَّة، إمَّا عن طريق تقديم دعم مادِّي، أو تقديم دعم فنِّي لخدمة النَّاس عن طريق الاستفادة من خبرات وجهود القادرين من أفراد ومؤسَّسات المُجتمع. وبتعبير حديث، الاستفادة من إمكانات وموارد مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ والأفراد، ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ والأفراد الحقّ في اختيار نَوْع الخدمات التنمويَّة الَّتي يرغبون في تقديمها للمُجتمع.
وتتنوَّع صوَر المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، نذكُر مِنْها تقديم تبرُّعات ومساعدات مباشرة لدعم مشاريع منظَّمات المُجتمع المَدَني التنمويَّة، أو دعم القِطاع العامِّ، أو عن طريق إنشاء مراكز اجتماعيَّة تابعة لمؤسَّسات القِطاع الخاصِّ تقدِّم خدمات اجتماعيَّة. فهناك بعض الشركات تُنشئ نواديَ تابعة لها ينضمُّ إليها موظَّفو الشركة ومن خلالها تقدِّم خدمات اجتماعيَّة، ولعلَّ من أعرق صوَر المسؤوليَّة الاجتماعيَّة الوقف الخيري. ويُقصد بالوقف الخيري: هو حبس أو تخصيص مال معيَّن لخدمة النَّاس، فيُحافَظ على الأصل، ويُستفاد من منفعته لخدمة المُجتمع، بحيث تتحقق الاستدامة في تقديم الخدمة الاجتماعيَّة. ويكُونُ مصدر أموال الوقف هو فائض مدَّخرات مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ، أو الأفراد. ويخدم الوقف الخيري مجالات عدَّة في المُجتمع: مِثل مجال دعم العبادات كبناء المساجد، وتوفير مساعدة النَّاس على الحج والعمرة، وتوفير إفطار صائم، وهناك مجال الصحَّة كإنشاء المستشفيات الَّتي تقدِّم الخدمات المجانيَّة، وإنشاء دُور رعاية الأيتام، والأرامل، والمُسنِّين، والمعوقين، ورعاية الحيوانات، وإنشاء المؤسَّسات التعليميَّة كالمدارس والجامعات والمكتبات العامَّة، ومجال دعم المهن وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسِّطة كتوفير أدوات المِهنة مِثل سُفن الصَّيد، أو آلات الخياطة، أو آلات النجارة وغيرها من أدوات المِهن الَّتي تُعين الفقراء والمحتاجين على كسب الرزق، أو توفير الاحتياجات للموتى، كالمقابر، والاحتياجات لتجهيزهم.. كُلُّ هذه المجالات الَّتي دعمها الوقف الخيري تُعَدُّ من باب المسؤوليَّة الاجتماعيَّة. وقَدِ اهتمَّ المُسلِمون بوقف الفائض من أموالهم لخدمة المُجتمع منذ بداية ظهور الإسلام، فقَدْ كان المُسلِمون يتسابقون على وقف أموالهم، حيث حثَّ الرسول صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم المُسلِمين على وقف أموالهم، نذكُر مِنْها: وقف عثمان بن عفان ـ رضيَ الله عَنْه ـ عِندما أوقف بئر رومة لسقاية النَّاس، وأوقف عمر ـ رضيَ الله عَنْه ـ أرضًا بخيبر، وتصدَّق علي بن أبي طالب ـ رضيَ الله عَنْه ـ بأرض بِيَنبع، وهكذا تتالت أوقاف المُسلِمين وانتشرت حتَّى أنَّها كانت تسدُّ جميع احتياجات المُجتمع. وتخدم جميع المجالات الاجتماعيَّة، فبات النَّاس ينتفعون من أموال الوقف حتَّى كفاهم الوقف الحاجة والسؤال.
ويُمكِننا القول إنَّ الوقف الخيري إحدى صوَر المسؤوليَّة الاجتماعيَّة العريقة والَّتي بدأت في المُجتمع الإسلامي منذ عهد الرسول صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم، واستمرَّ في نُموِّه وتنوُّعه في خدمة المُجتمع حتَّى عصرنا هذا، بل إنَّ المُسلِمين قَدْ أبدعوا في فتح مجالات جديدة في الوقف لخدمة المُجتمع، حيث أوقفوا دُور رعاية (إسطبلات) للخيول المُسنَّة، ومراكز إيواء للحيوانات الضَّالَّة. لذا فإنَّنا نتمنَّى أن يستمرَّ تشجيع المُسلِمين على الوقف الخيري من باب المسؤوليَّة الاجتماعيَّة ولا يقتصر هذا التشجيع على الأفراد، بل حتَّى على مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري