نشر مقال لنا بعنوان (التحوُّل في دَور المؤسَّسات الوقفيَّة من مؤسَّسات دينيَّة إلى اجتماعيَّة) وذلك في العدد السابق من هذه الجريدة (الوطن) العُمانيَّة الموقَّرة، يوم الأحد الخامس من شهر مايو، 2023، حيث عالجنا فيه:)) المفهوم الخاطئ الشائع لا سِيَّما في العصور المتأخرة في دوَل الخليج العربي حَوْلَ دَور الوقف الخيري بأنَّه يركِّز على تمويل القِطاع الديني فقط كدعم المساجد وتشغيلها، وتحمُّل كلفة رواتب الموظفين وكلفة تنظيف مرافق المساجد، وتوفير المواد الاستهلاكيَّة للمُصلِّين كتوفير مياه الشرب، والمحارم الورقيَّة، وغيرها، ودفع رسوم الكهرباء والماء، وتوفير المصاحف، وقد يمتدُّ الدَّعم لإنشاء المكتبات بالمساجد ومتطلبات حلقات تعليم القرآن الكريم، علاوة على تمويل المقابر بتخصيص الأراضي الموقوفة، وتحمُّل كلفة دفن الموتى. وتمويل كلفة العبادات ككلفة الحج والعمرة، وإفطار الصائمين، ولم يمتدّ مفهوم الوقف الخيري في هذا العصر بشكلٍ واضح لدعم القِطاعات التنمويَّة المختلفة التي ذكرناها في بداية المقال، كدعم قِطاع التعليم والصحَّة، القِطاع الرعوي وغيرها… كما بَيَّنَا أهمِّية تركيز الواقفين في هذه الفترة على دعم الخدمات الاجتماعيَّة مِثل دُور الإيواء بأنواعها، ودُور الرعاية والتأهيل للمُسنِّين والمُعوقين، والمتعافين من الأمراض المزمنة، والمتعافين من المخدرات، والخارجين من السجون وغيرها من الخدمات، وبالتالي لا بُدَّ من تهيئة خبرات متخصِّصة في مجال خدمة المُجتمع وعِلم النَّفس وعِلم الاجتماع قادرة على إدارة هذه المؤسَّسات الاجتماعيَّة).
وقد لاقى هذا المقال ردود فعل مختلفة من قِبل المختصِّين في مجال الوقف وهم بَيْنَ مؤيِّد ومعارض، فقد علق القارئ (م/ت) من جمهوريَّة الجزائر وهو مختصٌّ في مجال الوقف الخيري، وكذلك القارئ (م/م) بتأييد ما طرح في هذا المقال وبأنَّ المختصِّين في هذا المجال يدعمون هذا التوجُّه منذ فترة، في حين يرى الدكتور زهير حافظ وهو مستشار شرعي ومالي من المملكة العربيَّة السعوديَّة الشقيقة بضرورة التريُّث في هذا الطرح حيث قال: (فيما يتعلَّق بالانطباع الذي يتركه مقالك لدى القرَّاء، وأنا مِنهم فإنَّه يلمح إلى عدم ربط المؤسَّسة الوقفيَّة بالبُعد الديني، وإنَّما بالبُعد الاجتماعي، ولذلك رغبتُ في لفْتِ النظر إلى أنَّ التوجُّه السَّائد لدى العديد من الكتَّاب الآن هو إبعاد الدِّين عن واقع الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وهذا فيه خطورة شديدة لأنَّ الدِّين الإسلامي هو غير الأديان الأخرى التي فصَلت الدِّين عن تسيير الدنيا وللأسف الشديد.) وإنَّني أتقدَّم بالشكر لجميع القرَّاء الأعزَّاء على تفاعلهم مع هذا المقال وأخصُّ بالشكر سعادة الدكتور عمر زهير حافظ المستشار الشرعي والمالي، لملاحظاته المفيدة والتي تلفت الانتباه لقضيَّة لها أهمِّيتها في هذا العصر.
كما أوضح أنَّنا لا نتَّفق مع التوجُّه الذي يجعل من الوقف الخيري نشاطًا مدنيًّا بعيدًا عن الدوافع الدينيَّة، فهو نشاط ديني بحتٌ؛ باعتباره يقوم على الدوافع الدينيَّة والنيَّة لطلب الأجر والثواب ليستمرَّ هذا الأجر حتى بعد الموت. ونؤكِّد عدم اتفاقنا بالدَّعوة لتغير دوافع الوقف الخيري لدى الواقفين من دوافع دينيَّة بغية الأجر والثواب إلى دوافع إنسانيَّة اجتماعيَّة، أو أن يكُونَ من باب المسؤوليَّة الاجتماعيَّة كحال الأوقاف الخيريَّة في المُجتمعات غير الإسلاميَّة؛ كَيْ لا يتجرَّد الوقف الخيري الإسلامي من مضمونه.. ونحن نرى أنَّ ما يُميِّز الأوقاف الخيريَّة في المُجتمعات الإسلاميَّة عن الأوقاف الخيريَّة في باقي المُجتمعات هو ربط الوقف الخيري بإخلاص النيَّة لله تعالى. ممَّا يدفع النَّاس لمزيدٍ من الاجتهاد والإنفاق في مجال الوقف الخيري .ويدفع متولِّي الوقف الخيري والمُكلَّفين بالإشراف على الأوقاف ببذل الجهد للحفاظ على أصل الوقف واستدامته، ولتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة للموقوف عليهم التزامًا بمبادئ الشريعة الإسلاميَّة في هذا المجال. كما نؤكِّد على طرحنا في المقال السَّابق بضرورة تشجيع الواقفين على وقف أموالهم لأغراض خدمات اجتماعيَّة مِثل رعاية الأيتام والمُسنِّين والأرامل والمعوقين، ودعم التعليم والعلاج وغيرها وعدم الاقتصار على دعم كلفة العبادات مِثل بناء المساجد وإدارتها وتشغيلها، وتوفير كلفة الحج، وتوفير إفطار الصائمين وغيرها وذلك نظرًا لتغير العوامل الاقتصاديَّة في المُجتمعات الإسلاميَّة والتي تؤثِّر على مستوى الرفاهية في المعيشة في المُجتمعات الخليجيَّة خصوصًا.
وفي الوقت نفْسِه نتَّفق مع التوجُّه الذي يرى أن تكُونَ إدارة الوقف الخيري إدارة مهنيَّة بحسب التخصُّص في مجال الموقوف عليه، فإذا كان الوقف عبارة عن مؤسَّسات طبيَّة كالمستشفيات ومراكز العلاج الطبيعي، فلا بُدَّ من إدارته من قِبل مختصِّين في مجال الطبِّ والعلوم الطبيَّة المساندة، وكذلك إذا كان الوقف عبارة عن مؤسَّسات اجتماعيَّة لرعاية وتأهيل الفئات الضعيفة، فلا بُدَّ من إدارتها من قِبل مختصِّين في مجال العلوم الاجتماعيَّة بأنواعها.
ولعلَّنا نُشبِّه هذا الطرح بتجربة المصارف الإسلاميَّة، فدوافع إنشاء المصارف الإسلاميَّة دوافع دينيَّة وهو البُعد عن الربا الذي حرَّمه الله تعالى وجعله من الكبائر، ويشرف على سَير عمل المصارف الإسلاميَّة لجان رقابة شرعيَّة أعضاؤها مختصُّون في مجال الشريعة الإسلاميَّة بهدف تحديد المعايير الشرعيَّة التي يجِبُ الالتزام بها في أعمال المصرف، ويكون هناك قِسم مختصٌّ للرقابة الداخليَّة الشرعيَّة للتحقُّق من التزام المصرف بتطبيق معايير الشريعة الإسلاميَّة، ولكن تدار تلك المصارف من قِبل مختصِّين في مجال الصيرفة ومختصِّين في مجال المحاسبة، ومجال الاستثمار. وفي تقديري أنَّ هذه المنظومة هي السبب في تحقيق النجاح في تجربة الصيرفة الإسلاميَّة حيث تدار من قِبل كفاءات عالية في مجال إدارة المصارف، ولكن وفق المعايير الشرعيَّة.
وأخيرًا نثمِّن جميع ملاحظات القرَّاء الأعزَّاء، وإنَّنا لنعتزُّ بمداخلاتهم ونعدُّها إثراء للأطروحات التي نعالجها على صفحات هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) العُمانيَّة، ولجميع القرَّاء كُلُّ الشكر والتقدير، وشكرنا وتقديرنا الخاص على مداخلة سعادة الدكتور عمر زهير الثريَّة… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري