صحا الناس على خبر غريب يجتاح المدينة، خبر طار بين الأمصار، فحير الناس حتى تجاوز استيعاب عقولهم، كيف يعود الحكيم (بيدبا) بعدما هجر الناس أزمانا طويلة؟ ولِمَ عاد؟!! لا بُدَّ وأن هناك خطبا جللا؟!! أتراه عاد ليبحث عن (دبشليم) الملك، فهم ما زالوا يذكرون أن بيدبا طرق باب (دبشليم) الملك ناصحا عندما جار وتجبر واستاء الناس من قراراته وتصرفاته، وقف ببابه ناصحا، وقد رفض (دبشليم) الملك نصيحة (بيدبا) الحكيم لكنه فكر وتدبر فقرب (بيدبا) منه وظل يطلب نصحه.
فتساءل الناس: ما الخطب؟!! ولِمَ عاد (بيدبا)؟! أتراه عاد (لدبشليم) الملك ناصحا؟!! فتوافد الناس زرافات ووحدانا نحو (بيدبا) الحكيم وتحلقوا حوله وانهالت عليه الأسئلة ما الخطب الجلل الذي أعادك لاهثا إلى الناس؟! فجال بعَيْنَيْه بين الناس يرنو القاصي وينظر إلى الداني، وقد اغرورقت عيناه بالهمِّ والحيرة، فزاد الناس فزعا وخوفا، (فبيدبا) لا يترك صومعته وينزل إلى الناس إلا إذا ألمَّ بالناس خطب جلل.
فسأله أحدهم، أتبحث بعَيْنَيْك عن (دبشليم) الملك؟! لن تجده بيننا، فأجاب في لهفة: عودتي ليس (لدبشليم) الملك، فأنا عائد لأنقذ الناس من خطر أكبر من الخطر الذي كان الناس فيه أيام بطش (دبشليم) الملك. قال أحدهم: أتريد أن ندلك على باب القصر لتقف عنده ناصحا.
(بيدبا): هذا ليس مرامي، فأنا أقصد أبواب البيوت، أنا قاصد الآباء والأمهات.
دهش الناس هل يخرج (بيدبا) من صومعته التي قضى فيها السنين الطويلة ليعقد مجلس آباء؟ فتجرأ أحدهم سائلا:
ما خطبك يا حكيم الزمان أتشغل نفسك بالحديث لآباء الصغار، أم أنك تظن أن صوتك بات بعيدا عن القصور فجئت لتشغل نفسك ببيوت الناس؟
(بيدبا): يا بني أنا أسمع صوتي لكل راعٍ مسؤول عن رعيته، لا يهمني أن يكون من علية القوم أو من سائر الناس، أنا أوصل صوتي لكل من يضيع الأمانة ناصحا مخلصا لتعود الأمور إلى نصابها.
اتكأ (بيدبا) على منسأته واعتلى برجله الضعيفة صخرة ونادى الناس قائلا:
أيها الناس هناك خطر يترصد بفلذات أكبادكم، فأنتم مشغولون عن فلذات أكبادكم بهواتفكم النقالة، بعد غيابكم عن بيوتكم ساعات طويلة تقضونها في العمل وفي مهام أخرى، وتتركون أبناءكم وحيدين في غرفهم، وقد بلغني أنكم قد منحتم صغاركم هواتف ليتواصلوا فيه مع الناس من جميع أنحاء العالم دون رقيب، فيصاحبهم الصالح والطالح، وأنتم غافلون عنهم فلا تعلمون من يصاحبون؟ وماذا يكتسبون من صحبهم؟ فكشر عن أنيابهم الأشرار لينقضوا عليهم وأنتم في غفلتكم لاهون. أيها الآباء أنقذوا فلذات أكبادكم من هؤلاء الأشرار فهم أمانة في أيديكم.
استغرب الناس حتى ظن البعض أن (بيدبا) الحكيم قد ألمَّ به الخرف وهو يهذي، فأبناؤنا ينعمون بالأمان والراحة، ويعيشون في رفاهية، وهم في غرفهم آمنون، فهم في معزل عن الناس، بل إنهم لا يكلفون أنفسهم عناء الخروج من المنزل حتى للتسوق أو شراء حاجاتهم، فمن هواتفهم يشترون ما لذَّ وطاب من الأطعمة، وما يريدون من الملابس، وكل ما يخطر ببالهم، أطفالنا بأمان لم نعد نخشى عليهم رفاق السوء الذين يحيطون بهم في المدارس أو الحي أو الأندية، فهم يمارسون جميع الأنشطة عبر مواقع وسائل التواصل الاجتماعي وهم في بيوتهم فلِمَ الخوف والهلع؟!!!
(بيدبا): لقد تركتم أبناءكم يتفاعلون مع مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعاملون مع العالم الافتراضي، وأنتم تجهلون هذا العالم، فلا تعرفون كيف تتفاعلون معه، ولا تعرفون ما فيه من أفكار ومفاهيم تبث تضر بأبنائكم، فالبُعد الفكري قد كبر بينكم وبين أبنائكم، حتى باتوا يتحدثون عن عالم تجهلونه، فباتوا وحيدين في هذا العالم دون حمايتكم.. أبناؤكم فريسة لأفكار بعيدة كل البُعد عن ثوابت مجتمعكم وعن قيمكم وعن العادات التي ورثتموها من أجدادكم حتى أصبحتم أغرابا عنهم وهم أغراب عنكم، أطفالكم سيبتعدون عن دينكم، وسيقعون فريسة لأفكار غريبة، أطفالكم هم هدف لعصابات خطرة لمروجين للإرهاب أو للمخدرات، أو تجار للدعارة، أو لدعاة المثليين، فهم يعلمون أن هؤلاء الصغار الضعفاء لا سند لهم فسيستدرجونهم للهلاك.
أيها الآباء تحدثوا مع أبنائكم وتحاوروا معهم، واعرفوا منهم أصحابهم الذين يتواصلون معهم في العالم الافتراضي، فقد يكون من بينهم رفاق السوء، وجالسوهم يوميا لتعرفوا منهم الأفكار التي يكتسبونها من هذا العالم، وحاوروهم وناقشوهم في أفكارهم الغريبة، وعلموهم المعايير والثوابت؛ لكي يعدوها مقياسا يميزون بها الخبيث من الطيب.. أطفالكم في خطر فاقتربوا منهم وحاوروهم كي لا يُختطفوا.
قال قوله هذا وترك القوم متمتمًا: علَّ حديثي هذا يوقظكم من غفوتكم، يا حسرتي على صغاركم!! يا حسرتي على صغاركم؟!… لعلهم يعيشون سالمين.