استوقفتني شهادة على عصر سلف، إنها شهادة الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على وضع المرأة قبل ظهور الإسلام، حيث قال “والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم”. فهو يشهد أن الأمم في ذلك الوقت لا تعطي للمرأة حق استقلالية الذمة المالية في كثير من الأحيان، حتى جاء الإسلام، وجعل استقلاليتها المالية حقًّا لها لا يجوز لأحد أن يسلبه منها أو ينازعه فيها سواء: أب أو أخ أو زوج أو قاضٍ، فأصبح للمرأة حتى تملك الأموال، ولها حق الميراث، ولها حق إدارة أموالها بنفسها واستثمارها، ولها الحق في التصرف في الأموال عن طريق إبرام العقود بأنواعها كعقود البيع، وعقود الإيجار، وعقود الشراكة، كما أعطاها الحق في إبرام عقود التبرعات، وبالتالي أصبح للمرأة أملاك وأموال، ونالت الفرصة لتقدم الأعمال الخيرية عن طريق التبرعات والصدقات والزكاة، ومن الطبيعي أن يكون لها الحق في أن تبرم عقود الوقف كعقد الوقف نفسه فلها أن توقف جزءا من أموالها وقفا خيريا. وليس هذا فحسب، بل أجاز لها الإسلام حق إدارة الوقف بأن تعين متوليًا أو ناظرًا للوقف الخيري أو الذري، وأن ينص على اسمها في عقد الوقف على أنها ناظر على الوقف. وهذا النوع من الصلاحيات التي حصلت عليها المرأة كانت منذ بداية ظهور الإسلام، فيرجع أول إدارة وقفية إلى أُم المؤمنين حفصة، التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف التي يملكها في حال وفاته، واشتهرت بالأوقاف في العصر العباسي زبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد (رحمه الله)، مما يدل على أن المرأة كان لها الحق أن تكون واقفة، وأن تكون منتفعة من الوقف الخيري، وأن تكون ناظرة للوقف الخيري. وظلت المرأة المسلمة تنشط في مجال الوقف الخيري من خلال الأدوار الثلاثة: الواقف والموقوف عليه، وقد اختلف مستوى الفرص المتاحة للنشاط في الوقف الخيري من عصر إلى آخر، ويرجع ذلك للعوامل الاقتصادية، ومدى احتياجات المجتمع في كل فترة زمنية. وسنورد أمثلة لنشاط النساء الوقفي في بعض العصور الإسلامية.
وقف عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقد اشترت دارًا، وكتبت في شرائها: إني اشتريت دارًا، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن.. ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبي بكر. كما أوقفت أمهات المؤمنين مثل أسماء بنت أبي بكر، وأُم سلمة، وأُم حبيبة، وصفية ـ رضي الله عنهن وأرضاهن ـ مما يدل على أن أمهات المؤمنين كنَّ يحرصن على حبس جزء من أموالهن لله. وقد سارت على نهجهن نساء المؤمنين في العصور الإسلامية المختلفة، وسنورد أمثلة لبعض أوصاف النساء في العصور الإسلامية المختلفة:
ففي العصر العباسي نشطت النساء في إنشاء الوقف ومن أشهر هذه الأوقاف وقف زبيدة بنت جعفر المنصور، زوجة هارون الرشيد، وسبلت الماء من بغداد إلى مكة، وحوى وقفها آبارا وبركا ومنازل لاستراحة حجاج بيت الله الحرام، وتوفير الماء خلال مسيرهم، وما زالت آثار تلك الوقف ماثلة للعيان. ومن أوقاف النساء العباسيات وقف ومسجد الخفافين في بغداد من إنشاء السيدة زمرد خاتون، زوجة الخليفة العباسي المستضيء في بغداد، الذي تُعد منارته أقدم منارة معروفة في بغداد.
أما في العهد العثماني فقد نشطت النساء في مجال الوقف وتنافسن في فعل الخير حتى بلغ عدد وثائق الوقف للنساء في السجلات العثمانية 2500 وثيقة وقفية مثل: وقف (خاصكي سلطان) زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، في القدس بجوار المسجد الأقصى المبارك (تكية خاصكي سلطان)، لتقديم الوجبات المجانية للفقراء، وما زالت التكية تعمل وتقدم خدماتها للأسر الفقيرة إلى الآن. ومن أوقاف النساء العثمانيات وقف مسجد بنته امرأة محسنة، وأطلق عليه مسمى “مسجد السيدة” وكان أعظم جامع في الجزائر.
أما العهد الأيوبي الذ ازدهر فيه الوقف فقد كان هناك نصيب كبير لوقف النساء، نذكر منها إنشاء المدرسة العذراوية وأوقفتها الست العذراء بنت أخي صلاح الدين الأيوبي، ودرس بها كبار العلماء منهم وخرجت عشرات طلبة العلم والفقهاء، والمحدثين.
تلك أمثلة نسوقها في وقف النساء خلال العصور الإسلامية، لعل في ذلك يكون دافعا للمرأة المعاصرة لأن تجتهد في توفير أموالها التي تكتسبها لتشيد أوقافا بدلا من أن تنفق الأموال الباهظة على شراء العلامات التجارية والسيارات الفارهة والتنافس في اقتناء المجوهرات، وأن تقتدي بمن سبقنها من النساء المسلمات في العصور الإسلامية المختلفة لإنشاء الأوقاف الخيرية بأفكار جديدة متطورة تخدم أفراد المجتمع في العصر الحالي، وتصنع من هذا الوقف صروحا تشهد على النشاط النسائي الخيري في زمان انشغلن فيه النساء بكسب الرزق وأصبحن ذوات دخل مادي يكفيهن ويفيض عن حاجتهن… ودمتن بنات قومي سالمات.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري