wooden ladder by bookshelves

جولة فـي مكتبة جامعة بغرناطة

احتفل العالم بداية الشهر الجاري؛ أي في الأول من شهر ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية، وذلك ضمن الأيام والأسابيع الدولية التي تطلقها الأمم المتحدة بشأن القضايا ذات الأهمية البالغة، وحشد الإمكانات والجهود لمعالجة المشاكل العالمية، وللاحتفال بالإنجازات الإنسانية في مجالات عدة.
وقد حددت الأمم المتحدة موضوعا لاحتفالية هذا العام 2022 وهو: (مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية)، حيث سلطت اليونسكو الضوء على الإسهامات الغزيرة للغة العربية في إثراء التنوع الفكري والثقافي للإنسانية، فضلًا عن مساهماتها في إنتاج المعرفة.
إن اختيار هذا الموضوع وهو مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية يجعلنا نوقن أن هناك موروثا من العلوم والمعارف باللغة العربية، وهي بالطبع جزء من الثقافة العربية الإسلامية، وعلينا اكتشافه واستثماره، وهذا ما دفع الأوروبيين والمستشرقين لتعلم اللغة العربية لاكتشاف كنوز الموروث العربي في مجال العلوم والثقافة.
وهنا يفرض سؤال نفسه: هل استفدنا من قدرتنا على القراءة والكتابة والتحدث باللغة العربية في اكتشاف واستثمار الإنتاج المعرفي الموروث من أجدادنا السابقين؟ وهل أضاف أبناء الأجيال اللاحقة إنتاجا معرفيا في مجال العلوم والثقافة العربية الإسلامية الموروثة؟ تلك أسئلة نجيب عليها من خلال مناقشة مفهوم شاع بيننا وهو أن اللغة العربية لا تصلح كلغة للعمل والوظيفة وتعلم العلوم الحديثة، بل هي لغة للتواصل الاجتماعي وللعبادة فقط، فمن أراد أن يدرس العلوم الحديثة بأنواعها عليه أن يتقن اللغة الإنجليزية، فالطب يدرس باللغة الإنجليزية، وكذلك الهندسة والفيزياء وغيرها من العلوم. وقد كنت أؤمن بهذا المفهوم حتى قمت بزيارة لمكتبة إحدى الجامعات بمدينة غرناطة في إسبانيا حيث تجولت بين رفوف المكتبة بمرافقة إحدى الموظفات اللاتي يعملن في المكتبة، حيث بيَّنت لي أن المكتبة تضم مراجع في الطب، والهندسة، والعلوم والفيزياء والفلك، وغيرها من مجالات العلوم، فسألتها مستغربة: ألا يدرس طلبة الجامعة باللغة الإنجليزية؛ ليسهل عليهم الحصول على المعارف والعلوم وليتابعوا المستجدات في مجال اختصاصهم. من المراجع العالمية المتاحة، ومن وحضور المؤتمرات وحلقات العمل المتخصصة العالمية؟!
فنظرت إليَّ باستياء شديد، وقالت: هل تقصدين أن العلوم لا تدرس إلا باللغة الإنجليزية؟! فها هم الألمان يستخدمون لغلتهم كلغة في مجال العلم والعمل، وكذلك يفعل الصينيون. وبالطبع يستخدم الروس لغتهم في مجال العلم والعمل، وكذلك يفعل الناطقون باللغة الإسبانية. فتساءلت كيف تبنينا هذا المفهوم مع أن لدينا موروثا علميا غزيرا باللغة العربية في مجال الطب والرياضيات والفيزياء والفلك ورثناه من أجدادنا الذين عاشوا في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية، وهذا الموروث يتعلمه أبناؤنا ولكن بعد ترجمته من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. لعمري إنها مفارقة تثير الغرابة والدهشة، وهنا أتساءل: هل المشكلة في أن اللغة العربية لا تصلح كلغة للتعلم والعمل؟ أم المشكلة في طريقة تفكيرنا وعدم ثقتنا بأنفسنا وعدم اعتزازنا بهُويتنا؟! فالأزمة هنا ليست أزمة موروث ثقافي، بل هي أزمة اعتزاز بالهُوية، وتلك إشكالية حضارية كبرى؛ إذ إن عدم الاعتزاز بالهُوية وعدم الثقة بأنفسنا وثقافاتنا وثوبتنا ينبئ بخطر يحيط بالأمة العربية والإسلامية، فعندما نتراخى عن الحفاظ على حضارتنا وبنائها سنقف مكاننا بين الدول النامية، ولن نتعداه ليكون لنا موقع مهمٌّ بين الدول المتقدمة. وهنا نذكر حقيقة قررها أمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال:
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
فعلى الرغم من كثرة المرددين لهذا البيت من الشعر، إلا أن قله منهم ممن يؤمنون به ويتمثلونه ويطبقونه. ألا تتفقون معي أن الأزمة هي أزمة الاعتزاز بالهُوية؟! وأتساءل: كيف لا نعتز ونتمسك بلغتنا العربية كلغة علم وعمل ونكتفي أن تكون لغة تحدث على الصعيد الاجتماعي فقط، وهي اللغة التي اختارها الله تعالى من بين لغات العالم على مرِّ العصور لتكون وعاءً لوحْيِه المُنزل على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، واختارها لغة لأهل الجنة، من هنا ندرك أن القضية أكثر تعقيدا من مجرد مشكلة عدم الاعتزاز باللغة.
وتزداد المشكلة تعقيدا عندما يمتد العزوف عن استخدام اللغة العربية في مجال العلم والعمل ليتعداه ويصل إلى العزوف عن التحدث باللغة العربية في مجال التواصل والتفاعل الاجتماعي، فتجد الكثير من الشباب يتحدث بلغة ممزوجة بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، فهم يتحدثون بلغة مشوهة، فشبابنا لا يتقنون اللغة الإنجليزية ولا يتقنون اللغة العربية. إن استياء تلك المرشدة التي أرشدتني في مكتبة الجامعة بغرناطة جعلتني أدرك أن أبناء لغة الضاد ابتعدوا عن لغتهم وتنازلوا عنها واستبدلوها بلغات أخرى. في حين تمسك أبناء اللغات الأخرى بلغتهم واعتزوا بها، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في قناعاتنا، وأن نبدأ باكتشاف موروثنا الثقافي، ونستثمره ونضيف إليه، والأهم من هذا وذاك علينا أن نهتم بتنشئة أبنائنا على الاعتزاز بهُويتهم، وللحديث بقية… ودمتم أبناء قومي سالمين.

نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري