كثيرا ما يستخدم الناشطون في العمل التطوعي والعمل غير الربحي مصطلح الاستثمار الاجتماعي، وهذا يدعونا للتساؤل عن مفهوم هذا المصطلح؟ وهل هو مفهوم جديد؟ أم أنه امتدادا مفهوم قديم أصيل في الثقافة العربية والإسلامية؟
وقبل أن نناقش مصطلح الاستثمار الاجتماعي، دعونا نسترجع تطور المجتمعات منذ القدم، فقد كان الإنسان الأول يعيش عيشة التنقل والترحال، عيشة بدائية في الغابات والصحاري، ثم استقر وبدأ ينشأ المدن فأنشأ مصادر المياه، وأنشأ المساكن، ثم عبَّد الممرات والطرقات، ثم طوَّر مكان سكَنه هذا ليُنشئ مباني عامة ينتفع منها الناس، كالحمامات العامة والحدائق العامة، والمستشفيات والمدارس، ثم الشوارع التي تسير عليها السيارات. وهكذا استمر الإنسان في تطوير المدينة أو البلد التي يسكن فيها جيلا بعد جيل حتى أصبحت المدن والبلدان على ما هي عليه الآن.
إن تطوير المدن ليعيش الإنسان فيها على مستوى معيشي أفضل هو ما يُسمى بعملية التنمية، وقد اتسع مفهوم عملية التنمية ليشمل تنمية صحة الإنسان وجميع قدراته، وتنمية موارد المدينة أو البلد التي يعيش فيها وغيرها من المجالات. فلم تقتصر عمليه التنمية على تنمية البنية التحتية والخدمات في المدينة أو في البلد. وظلت عملية التنمية هي الشغل الشاغل للإنسان ليعيش معيشة آمنة مستقرة توفر جميع احتياجاته في موطنه الذي اتخذه.
وقد صنف الإنسان قطاعات التنمية إلى ثلاثة قطاعات: القطاع الخاص، والقطاع العام، والقطاع الأهلي. ومن خلال هذه القطاعات تنشأ المشاريع التي تقدم خدمات للإنسان كالمصانع والمصارف التجارية والمدارس والمستشفيات والمكتبات وغيرها وتتنوَّع هذه المشاريع التي تخدم الإنسان في القطاعات الثلاثة. ففي القطاع العام تقدم الخدمة مجانية، وفي القطاع الأهلي تقدم بطريقة غير ربحية، أما في القطاع الخاص فتقدم بطريقة ربحية إذا ينتفع الملاك بعائد استثمار هذه المشاريع. أما المؤسسون في القطاع غير الربحي فلا ينتفعون من عائد استثمار هذه المشاريع، وهم يهتمون بجودة تقديم الخدمة للمجتمع، ومن هنا اقتربنا إلى مفهوم الاستثمار الاجتماعي.
وأعرف الاستثمار الاجتماعي: بأنه مجموعة أنشطة وعمليات تهدف إلى تحقيق النمو والربح والمردود المالي لأصول أو أموال التي تشكِّل رأس المال، مع إعطاء الأولوية لتقديم خدمات اجتماعية للمجتمع مع الحفاظ على القِيَم والمبادئ، خلال تنفيذ هذه المشاريع.
فالاستثمار الاجتماعي يعطي الأولوية لمصلحة المستفيد من الخدمة الاجتماعية وليس مصلحة المالك أو المؤسس للمشروع وتحقيق الربح. ومن أمثلة مشاريع الاستثمار الاجتماعي إنشاء المستشفيات، ومراكز العلاج الطبيعي، والمدارس والجامعات، ومشاغل الخياطة، وحضائر الحيوانات والاسطبلات وغيرها. فمثل هذه المشاريع يكون لها نوعان من الأهداف: الأول خدمة المجتمع مثل علاج المرضى ومساعدتهم، وتعليم الأطفال والشباب، وإنتاج ملابس لمساعدة المحتاجين ولتوفير فرص عمل وغيرها من الخدمات الاجتماعية. والنوع الثاني من الأهداف يركز على تحقيق الربح، وفي حالة المشروعات غير الربحية تعود الأرباح على المشروع نفسه لتشغيله وتطويره وليس لصالح المؤسسين للمشروع، وبالتالي تكون الأولوية في إدارة هذه المشاريع هي جودة تقديم الخدمة للمستفيدين وليس تحقيق الربح. لذا يُسمى مثل هذا النوع من الاستثمارات بالاستثمار الاجتماعي. وهناك أنواع أخرى من مشاريع الاستثمار الاجتماعي، فالمشاريع الاستثمارية الربحية التي تهدف لتحقيق الأرباح تدخل في دائرة الاستثمار الاجتماعي إذا ما راعت القِيَم والمبادئ الاجتماعية. ونورد أمثلة في ذلك أن يحظر القائمون على المشروع بيع السجائر أو تقديم التدخين في المقاهي والمطاعم حفاظا على صحة أفراد المجتمع، أو أن المشروع، أن تخصص جزءا من ريع استثمارات هذا المشروع لخدمة المجتمع.
والحقيقة أن الاستثمار الاجتماعي لا يعد نشاطا حديثا مبتكرا، إنما هو امتداد لثقافة أرساها ديننا الإسلامي الحنيف، وقد طبَّقها المسلمون في العصور الإسلامية السابقة، من خلال الوقف الخيري المباشر. ويقصد بالوقف الخيري هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، ويقصد بالأصل هنا المبنى أو العقار الذي يوقف للعمل الخيري. أما المنفعة؛ أي الخدمة الاجتماعية التي تقدم من خلال هذا المبنى لعامة الناس، كالتطبيب أو التعليم أو الإيواء أو غيرها. حيث كانت تنشأ المستشفيات والمدارس والاسطبلات ودور الإيواء والحمامات العامة وغيرها من المشاريع التي تقدم خدمات إنسانية واجتماعية للناس من خلال مبانٍ موقوفة وقفًا خيريًّا. وقد انتشرت هذه المشاريع الوقفية التي تقدم خدمات اجتماعية في العصور الإسلامية، خصوصًا في العصر المملوكي، والعهد الأيوبي وفي العهد العثماني، وقد كثرت الأوقاف التي تقدم خدمات اجتماعية في تلك العصور حتى يظن الباحث أن الناس لم تكن تمسك بأملاكها، بل تسبلها جميعها لله تعالى، لتقدم من خلالها خدمات اجتماعية.
ومن هنا، فإننا نعد الاستثمار الاجتماعي هو امتدادا للوقف الخيري المباشر الذي يقدم من خلاله خدمات اجتماعية إنسانية، وهنا نؤكد أن مشاريع الاستثمار الاجتماعي من الصعب أن تحقق الاستدامة دون الاعتماد على الوقف الخيري… ودُمْتم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري