لقد استلهمت مقال اليوم هذا من عبارة استوقفتني في كِتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصبيعة، وهو كتاب يوثِّق سيرة وإنجازات علماء المسلمين في مجال الطب الذين تركوا أثرا كبيرا في تطوير هذا العلم، حيث قال في مقدمته (فإنه لما كانت صناعة الطب من أشرف الصنائع وأربح البضائع، وقد ورد تفصيلها في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، حيث جعل علم الأبدان قرينا لعلم الأديان)، فقد قرن علم الطب ورعاية المرضى ووقاية الناس من الأمراض بعلوم الدِّين مما يدلُّ على أهمية حماية صحة الإنسان، ومما يؤكد هذا المبدأ أن علماء الدين اعتبروا الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ويأثم الإنسان إن فرط فيها، وبالتالي فإن كل نشاط يقوم به الناس في سبيل الحفاظ على صحة الأبدان يُعد بابا من أبواب خدمة المجتمع ومساعدة الناس، وقد تكون الأنشطة التي تساعد على الحفاظ على الأبدان بمقابل مادي، وقد تكون تلك الأنشطة تطوعية.
إن التطوُّع في مجال علاج الأبدان بحسب المصطلح الذي استخدمه أبو أصبيعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، أو بالتعبير الحديث التطوع في مجال الحفاظ على الصحة، سواء في مجال الوقاية من الأمراض أو العلاج منها، له أهمية كبيرة وله الأجر والثواب، فهو مستمد من أهمية الحفاظ على النفس البشرية وحمايتها من الهلاك. فقد قال تعالى في الآية 32 من سورة المائدة ((فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)) وهناك أنشطة تطوعية عديدة في مجال حماية جسد الإنسان والحفاظ على صحته نذكر منها:
• التطوُّع في مجال التوعية الصحية:
وقد نشط العديد من المتطوعين في هذا الزمان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي حيث أنشأ بعض الأطباء أو أخصائيي التغذية، وأخصائيي العلاج الطبيعي وغيرهم من المختصين قنوات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع إلكترونية، وأصدروا فيديوهات تنشر على (الواتس أب) لتوعية الناس وحماية أبدانهم من الأمراض، فنجد برامج تثقيفية صحية في مجال الرياضة، والتغذية، وأساليب المعيشة، وطريقة الجلوس الصحيحة، كما يطرح الأطباء بعض النصائح الطبية للمرضى المصابين ببعض الأمراض وأهمها الأمراض المزمنة، ولعل من أبرز الأمثلة النصائح الطبية التي كان يقدِّمها الأطباء في فترة انتشار جائحة كورونا، ويستفيد الناس للوقاية من هذا الفيروس، والمصابون بهذا الفيروس.
• التطوُّع في مجال الدعم النفسي:
حيث يقوم المتطوعون بتقديم الدعم النفسي والمساندة للمرضى، خصوصا المصابين بالأمراض المزمنة أو الصعبة كمرض السرطان والفشل الكلوي، وفشل وظائف الكبد، المعوقين، والمتعافين من الإدمان، حيث يقدمون هذا الدعم لهم ولأسرهم، عن طريق زيارتهم في المستشفى أو المنزل لتقديم المساندة النفسية وتشجيعهم لمواجهة هذا المرض بشتَّى السُّبل وفي جميع المراحل كمساندتهم النفسية عند استقبال الصدمة الأولى بالعلم بالمرض أو تطوره، وتقديم الاستشارات لكيفية التعايش مع المرض وتقبله والاستفادة من الخبرات في مجال العلاج أو كيفية التعامل مع الآلام، وعلاج المشاكل الأسرية المترتبة على وقوع أحد أفرادها في شراك المرض كتشجيع أبناء المريض على الاعتماد على أنفسهم بعد أن كانوا يعتمدون على الأب أو الأم في قضاء حوائجهم، فالدعم النفسي والمساندة والتشجيع له الأثر الكبير في شفاء الإنسان. وحسبنا أن ديننا الحنيف قد حث على عيادة المريض بهدف التخفيف عنه ومساعدته ومساندته نفسيا وجعل لهذا الفعل الأجر والثواب. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده…).
• التطوُّع بتقديم العلاج:
حيث يقوم بعض الأطباء، وأخصائيي العلاج الطبيعي، والممرضين بعلاج المرضى مجانا، سواء من المحتاجين منهم أو لأي سبب إنساني آخر، كإجراء العمليات الجراحية المجانية، أو تقديم العلاج الطبيعي، وعلاج جروح العمليات ومتابعتها، ووصف الأدوية أو غيرها من العلاج مجانا أو بأجر رمزي، ويتطوع الأطباء لعلاج المرضى في المناطق الفقيرة والتي تعاني من نقص المستشفيات، كما نجد أن الكثير من الأطباء يتطوعون لعلاج المرضى مجانا في موسم الحج، حيث يصاب بعض الحجاج بأمراض، فيحتاجون لتقديم العلاج الفوري قبل عودتهم لبلدانهم.
• التبرُّع بدفع قيمة العلاج:
إن علاج الأمراض لها تكلفة مالية عالية ككلفة أجرة المعالج من أطباء، ومعالجين طبيعيين، وممرضين، وكلفة توفير الأدوية، أو توفير الأجهزة الطبية المساعدة كأجهزة التنفس أو التغذية الصناعية، وغيرها وهنا يجتهد بعض المتطوعين لتشجيع المتبرعين لدفع كلفة العلاج أو جزء منه لدعم المرضى ومساندتهم.
• خدمة ومساعدة المرضى لقضاء حوائجهم اليومية:
بعض المرضى يحتاج لملازمة السرير، أو تكون حركتهم محدودة فيتعذر عليهم الاعتماد على أنفسهم في قضاء حوائجهم اليومية كالمصابين بالكسور أو الشلل أو غيرها من الأمراض التي تقلل من قدرة الإنسان على الاعتماد على نفسه، فيحتاج لمساعدة الأهل في قضاء حوائجه اليومية كالحاجة للمساعدة على المشي، أو تغيير الملابس، أو دخول الحمام، أو حتى تناول الطعام، وهذا الأمر قد يسبب عبئا كبيرا على أفراد الأسرة، وهنا يتطوَّع البعض لزيارة هؤلاء المرضى، سواء المقيمون في المستشفى أو المقيمون في المنزل، لتقديم المساعدة لهم لقضاء حوائجهم كتغيير الملابس، أو المساعدة في الاستحمام، أو المساعدة على المشي والحركة وأداء بعض التمارين الرياضية التي تساعد على شفاء المريض أو القيام بالواجبات المنزلية لخدمة أفراد الأسرة.
إن التطوُّع لخدمة المرضى له أهميته الكبرى؛ إذ يكون الإنسان في لحظات ضعف بسبب ما أصابه من مرض، وهو في هذه الحالة مهما كان فقيرا أم غنيا بحاجة لمساعدة الناس ومساندتهم، لذا فإن التطوُّع لخدمة الناس وهم في حالة المرض له أثر كبير في الترابط والتماسك الاجتماعي، فلنبحث عن أبواب فعل الخير بين جدران المستشفيات… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري