كم كنت أحب الورد فأقرأ على بتلاته قصيدة عذبة، وسُورًا لآيات الجمال، وفي ألوانه رسائل تحمل معاني الحب والغيرة والسلام والأمان، وأقرأ قصة حياة تلك الزهرة القصيرة التي لا تدوم سوى أيام قليلة، لكن مضامين قصتها عميقة جميلة، كم كانت بتلاتها تواسيني، وكم ناجيت أوراقها، وكم أودعتها أسرار قلبي النابض بالحب، وكم قرأت فيها أحلام أهل الحب كلهم فبنت الربى مأوى كل العشاق، وكم قصصت شكواي لروعتها فتحسن الإنصات والسلوى، وكم جعلت من رحيقها بلسمًا يداوي جراحي فيعيد الابتسام لشفتي.
لكنني اليوم كرهت الورد، وشحت بوجهي عن جماله، بل وألقيت به تحت قدمي غير مبال لأنينه وحنينه، نعم كرهت الورود كلها؛ لأنها تذكرني بسهامك التي طالما أدمتني وأرَّقتني، وأحرقتني بدموع الألم، فكم دستِ على ضلوعي، فإذا ما أدميتني أهديتني وردة لتعتذري فألملم جراحي وأسلو آلامي، فتكثري من الخطايا ولا تبالي، وتصلحي تلك الأخطاء بإهدائي وردة بيضاء، لكن عواصفك لا تنتهي، فكل يوم أصمد أمام ثورات غضبك التي تحرقني، لا أدري لِمَ سيثور بركانك؟ ومتى سترمينني بحميمك؟ فإذا ما أفرغتِ ما في قلبك من حمم جئتِ معتذرة بوردة تحمل رسائل الطيب والنقاء، كم كانت تسعدني ورودك، وكم كنت أستعذب اعتذاراتك الجميلة فينتعش قلبي، فالصلح بعد الخصام نشوة.
لكن زوابعك تزداد يوما بعد يوم عنفا وقسوة، فتترك في قلبي جراحا بات رحيق ورودك لا يداويها، حتى بلى قلبي الصغير فلم يعد فيه مساحة بلا جراح، فبات مهلهلا ضعيفا لا يقوى على الصفح والنسيان، لم يعد قلبي يقبل الاعتذار ولم يعد قلبي يتحمل عواصفك، فكرهت ورودك التي تذكرني بعواصفك، ليتك لم تعصفي ولم تعتذري.
ما أعجب حالنا!!! فكلماتك الجارحة تدق المسامير في نعشي، كلماتك الجارحة تقتل حبي للورد، فهذا المسمار عندما يغرس في الحائط ثم ينتزع لا ينمحي أثره مهما جملته أو أخفيت آثاره، هو لسانك!!! هي كلماتك!!! هي تعابير الغضب على وجهك!!! تنغرس في قلبي لتترك جراحا عميقة لا تلتئم. لم تعد ورودك تعيد لي كرامتي، لم أعد أرشف السعادة من بتلاتها، ولم يبقَ أمامي سوى النسيان، نعم سأنساك، وأنسى ورودك، نعم سأودعك وأهجرك لأعيد لنفسي سكينتها التي ضاعت مني وسط عواصفك.
كم كانت شكواي لصديق أو حبيب تواسيني، لكنني كلما شكوت تآكلت كرامتي حتى كادت تتلاشى ولم يبقَ منها إلا الفتات، فأذكر نصح أبي: شكواك للناس يا بني منقصة، فلن يزيدك إلا ندما، فنظرات العتاب واللوم تزيدني حرقة، وكم خاب ظني لمن أهديته ثقتي فلم يبقَ لي إلا الصمت والهجر.
نعم سأهجر ورودك، وسأودع جلسات الشكوى ولن تؤرقني الهموم، فأيام الحياة قليلة فلن أقضيها في ترقب وخوف وألم، أيام الحياة قليلة لن أضيعها بحثا عن ابتسامتك، سأودع الصبر الذي تجرعته فالصبر مر تجرعه، وسأبحث عن ابتسامتي وأحميها وأذود عنها، فلله درك يا كريم العراقي بحت بشِعرك عما في صدري حين قلت:
كم خاب ظني.. بمن أهديته ثقتي
فأجبرتني .. على هجرانه التهمُ
كم صرت جسرا .. لمن أحببته فمشى
على ضلوعي .. وكم زلت به قدمُ
فداس قلبي .. وكان القلب منزله
فما وفى لخل .. ما له قيمُ
فلعلَّ في هجري لك درسا، ولعلَّ في بُعدي عنك عبرة، ولعلَّك تدرك أن جرح اللسان أمضى من جرح السيف، فقد يرجى لجرح السيف برء، ولكن جرح اللسان لا يبرأ، فخذ العبرة تغنم.